الدكتور أحمد الأصبحي.. من ذاكرة الأدب الثوري والتحولات السبتمبرية

نقاشٌ عابر لدهاليز التنوع المعرفي والفني والإبداع الأدبي مع مفكر موسوعي وسياسي حصيف

كتب/ محمد محمد إبراهيم
mibrahim734777818@gmail.com
قِلّةٌ من رجال الفكر والثقافة والسياسة في اليمن، يظلون على جواهرهم النبيلة وشبابهم المتفتق على الأمل، واخضرار نفوسهم الأصيلة، وسط هرولة السنين، ووسط هجير السياسة وعواصف صراعاتها العاتية.. فلا  قارس الشتاء، بمقدوره يغيّر من لون نفوسهم السندسي، ولا شمس الصيف اللاّهبة، باستطاعتها مصادرة ارتواء طلاقة ملامحهم المبتسمة، ولا اصفرار الخريف بإمكانه التسلل إلى صفاء أذهانهم المتقدة في تضاعيف عقولهم المستنيرة بالمعرفة، ولم يخطر ببال زهو مسارح الربيع الفاتنة، استدراجهم إلى ضفاف النرجسية المعمدة بالأنانية.. بل انتصروا على تحولات فصول الزمن العمرية المفتوحة على الألم والأسى والأتراح والأفراح..
بهذه الصورة الناصعة بالأطر الجمالية النفسية المعتقة بنَفَسِ الأصالة اليمنية العريقة المعهودة استقبلني المناضل الوطني الوالد أحمد محمد الأصبحي (الأستاذ والدكتور والأديب والمثقف والمفكر والسياسي والإداري،….) الذي يعدُ شاهداً على التحولات السبتمبرية الثقافية والاجتماعية والسياسية، ففي جلسة نقاش عابر لدهاليز التنوع المعرفي تخللها الذهاب إلى الثورة السبتمبرية في الوجدان اليمني الإبداعي والفني، والإنتاج الفكري المعبر عن الثورة… وإشارات ملحمية أخرى أوجزناها في هذه المادة المتواضعة…. إلى التفاصيل:
إلى شارع رئيسي بعيد عن منزله استقبلني المناضل السياسي والمثقف الدكتور أحمد الأصبحي بروح أبوية خالصة.. فتح باب منزله المزروع بعنايته الشخصية ليحمل الذاكرة إلى فضاء الطبيعة الريفية اليمنية العامرة بمقومات الحياة الزراعية الخصبة.. مضينا معاً في ذلك الفناء الأخضر، وخلال خطاوتنا المشفوعة بعبارات الترحيب وضحكات الانتماء المجلجلة من قبل الوالد الأصبحي، أشعرني أن قرابة تربطنا من زمن بعيد.. إنها ميزة لا تجدها إلا في النزر اليسير من قامات الفكر والسياسة، ولعلها سمة قيادية فذة.. وصلنا الخيمة الصغيرة التي بدت كأيكة من أشجار وادي رماع الدائم الخضرة خارج ذاكرة الفصول.. في تلك الخطوات القليلة أحسست ببهجة “مواسم الزراعة” وتراتيل موال “الحب والبن” و”مهاجل القرى”، لكن وحدها الأغنية الخالدة “لحن الحقول” التي ضجت بين الحنايا، ولم يعد ينقصنا سوى صوت المتصوف الجميل أيوب طارش عبسي المفتون برقصة الفراشات وابتهاج زهور الصباح، وطنين النحل في مسايب الطبيعة البكر في مدرجات “ريمة” و”عتمة” و”برع”، و”العدين” ، و”بن وادي بني حمَّاد” وخرير المياه في “وادي بنا” وكما لو أن صوت أيوب استيقظ في عالمي صادحا بتراجيع تلك الأغنية التي كتب كلماتها الشاعر اليمني الكبير عثمان أبو ماهر :
أرضي أنا يا ابتسام الحبِّ في كل جيل
يا أرض نشوان يا تاريخ شعبي الأصيل
تحية الحُبّ تهديها تلال الدليـل
وبنُّ وادي بني حمَّاد عذْبَ الجـــنى
أقول هذا وأعتذر في مقام الدكتور الأصبحي إذ خرجت عن السياق، فهو من يحمل المعاني الجميلة ذات الانتماء اليمني لذاكرة خضرة الريف والفن الجميل.. جلسنا في نقاش مطوّل استمر لأكثر من ساعتين، لم يكن مسجلاً لكنه طرق آفاق الفكر والثقافة والاقتصاد والأدب الرحلاتي الذي يجيده الدكتور الأصبحي، إذ استعاد من ذاكرة متقدة بعض رحلاته الرسمية داخل الوطن رحلاته إلى المحويت، وريمة الشاهقة وجبالها الصخرية وافرة الدروس المتمثلة في أشجار “التالُق” التي شقت نماءها وظلالها الوارف في كبد الصخر الشاهق، فنطقت جهراً ثم سراً:
في الحيد يا تالقة يا اللِّي ظلالش برود
وقت الحمى رفرفي بالطل فوق الجنود
وان جاء المطر والزوايب والبروق والرعود
فكنّنيهم وكوني فوقهم حانية
ويا حنايا الضياح
من لفح برد الرياح
ومن صقيع الصباح
كوني لهم حامية
عند هذه النقطة لم نتطرق إلى الشاعر كاتب هذه الكلمات، فقد استرسل الدكتور الأصبحي في مسار فلسفي بحت رابطا بين عزيمة شجرة التالقة وإصرار اليمني في محافظة ريمة كغيرها من المحافظات اليمنية على مناجزة مستحيلات وصعاب الحياة.. فتذكرت فلسفته الثاقبة التي تابعت شذرات منها في حوارات صحفية سابقة مع الدكتور الأصبحي أصل فيها علاقة اليمني بالمكان والأرض تأصيلا فلسفياً حيث يرى المفكر الأصبحي أن اليمن بلدٌ حضارية، ارتكزت حضارتها على بعدين أساسيين، هما الثقافة، والمدنية.. مؤكداً أن الثقافة اقترنت بالمدنية لتشكلان منظومة حضارية ناجزة المعالم في أكثر من محطة تاريخية، لافتاً إلى أن اتساق عبقرية المكان بفطنة اليمني – العصامي بفطرته – ولّد تكيُّفاً أكسب اليمنيين احترام الآخرين..
وقال الأصبحي في ذلك الحوار: للأسف فلا يزال المكان نفس المكان، وربما ازدادت أهميته إلا أن يمنيي اليوم لم يفطنوا لأهميته كما فطن آباؤهم وأجدادهم له بالأمس، فنجد الآخرين يتسابقون على هذا المكان في الوقت الذي نتفرج عليهم، وكأن الأمر لا يعنينا! لم نستطع الاستفادة منه على الرغم من تزايد أهميته اليوم، وما يمثله من ثورة قومية في حد ذاته. اليوم كل العالم وخاصة الدول العظمى منه، ملأت مياهنا الإقليمية وخليج عدن بأساطيلهم في تسابق محموم فيما بينهم عليه، وبدون شراكة دولية معهم بالنسبة لنا، كما يدعون. الشراكة الدولية تقتضي الحصول على مغانم أو مكاسب، إلا أننا مغيبون تماماً.
معيداً سبب استفادة آباؤنا من عبقرية المكان إلى القوة التي امتلكناها بالأمس وكانت حضارة مشهودة اكتسبت قبل ذلك ثقافة ومدنية كنا نعيشها لا توجد في كل المناطق أو البلدان التي عاشت تلك الفترة. من الناحية الثقافية أهم ما تميزنا به أن حضارتنا قامت على الديمقراطية المليئة إن جاز التعبير. أيضا احترام الإنسان واحترام آدميته والتعامل معه برقي، كان العدل بين الناس سائدا وقائما، وهو أساس الحضارة وأساس الحكم، تأسست مجالس للحكم قائمة على الديمقراطية، تأسس دار الندوة في أكثر من مكان في اليمن.. ” .. (1)
ترحال شجون
كان الجو يزداد اتساقاً بوجدان الريف وأنا منصتاً للدكتور الأصبحي الذي يتحدث بنشاط وذاكرة متقدين فيما سبابته تشير إلى الأفق فاتحة فضاء رحباً من الحديث عن رحلته إلى حجة وتهامة (الخميسين) والطريق الطويل المقفر والسفر الليلي البديع، حيث خيمائي الليل المتصوف من أبناء تهامة الطيبين، ليذكرني بشاعر الترحال الأصيل علي عبد الرحمن جحاف في روائعه الملحونة بصوت وأوتار أيوب طارش عبسي: وا”طاير أم غرب” التي يقول في بعض أبياتها:
“أهدي بأيش أمْ هنا أَلْتَامِسْ، ولي قلب سالي
يهوى أم طرَبْ وأمْ تِنِفّاسْ
في أم خبت وأنا بتا (أم دَبْـئَهْ) مُحَمِّل جمالي
من أمْ خميس لا جبل رأس
في كل مِئْقابْ ألاقيْ أمْ زَخْمْ يخطر قُبَالي
أحِيْدَ أبو غُصْن ميّاس
يرقُص على نغمة أمْ شحْرُور بين أمْ دَوالي
يهمِّسَ الأرض همَّاس” (2)
ورغم أنه في لقاءنا العابر لمسافات الزمن والمكان، كان الحديث يذهب إلى الصين ثم اليابان ثم روسيا ثم الأندلس، إلا كنا نجد أنفسنا نتمحور في نقاشنا حول الثورة السبتمبرية وما شكلته من محطة فارقة في المسار الاجتماعي اليمني وتاريخه المعاصر، وانعكاس ظلال ذلك التحول على مدى الذاكرة الغنائية اليمنية.. ذهاباً إلى الذاكرة الشعبية الزاخرة بالفن الأصيل، انطلاقا من الشاعر سعيد الشيباني والفضول وعثمان ابو ماهر وأسماء كثيرة.. لتهيج بذاكرتي أسماء وقصائد الفضول السبتمبرية الخالدة التي داخ على وقع تراجيعها صدى الغناء اليماني :
يا رحاب المجد ما رَوَّضَنا
فيك أو (مَسْكَنَنا)  طول عناءِ
هاك منّا قسماً يا ارضنا
خالداً في شدةٍ أو في رخاءِ
لن يُلاقي البغي إلا رفضنا
رفض جبّار شريف الكبرياءِ
كما طافت في مخيلتي كثرٌ من قصائد المد السبتمبري لشعراء آخرين منها، القصيدة الشهيرة الملحونة بصوت أيوب للشاعر الكبير الموغل في الأصالة الأستاذ عبّاس الديلمي التي تقول كلماتها:
دمت يا سبتمبر التحرير يا فجر النضال
ثورةُ تمضى بإيمان على درب المعالي
تسحق الباغي تدك الظلم تأتي بالمحال
هدم الشعب السجونا
ووكور المجرمينا
ومضى يحمي العرينا..)
رغم ما كان يثيره حديث الدكتور الأصبحي المتدفق من ذاكرة رجل إداري وسياسي ومفكر في نفس الوقت، غير أني آثرت الصمت– رغم انتباه الدكتور الأصبحي وإنصاته مع أي سؤال أو مداخلة يلاحظها- حتى لأ أفقد متعة الإنصات في حضرةٍ من انسياب نهر الحديث المعرفي الذي يتفتق من ألق الزمن الجميل المضمخ بالكفاح المرير والتضحية والنضال الوطني لقامة ستينية الوقار، ثلاثينة الروح، فولاذية الذاكرة.. لقد كان الحديث يخرج من تضاعيف الفن اليمني والأدب الشعبي ليغوص عميقاً في إشارات لمَّاحة كان يبث عبقها فناء المنزل المزروع بأشجار كثيرة زهرية وثمرية وظليَّة .. فتطرقنا إلى ملحمة الريف التي كتب كلماتها الشاعر مطهر الإرياني وغنَّى فنان اليمن الكبير أحمد السنيدار منها ستة أبيات فقط، في الوقت الذي اختزلت فيه مظاهر الصباح الريفي من غبش الفجر حتى مسارح الضحى في (230) بيتاً شعرياً.. رسمت معظمها ملامح حياة القرية اليمنية بجمالها الكبر، ولم يغفل فيها الإرياني الالتفات إلى تدوين ملامح الاستبداد الذي عاشه الريف اليمني، في سنوات ما قبل الثورة اليمنية السبتمبرية 26 سبتمبر 1962م، أيام عسكر “العكفي” في أجمل مشهد إسكتشي عامر بالبساطة والإبداع الجمالي وكما لو أن الإرياني كان يدرك بجدارة منطق الطير حيث تقول تلك الأبيات :
فوق «الجُّبَا» دِيْك قد «جَفْجَفْ» يغَنِّي ويسْجَع/ يقول: «كاكي ككاه»
والعسكري من قفا «المزراب» «طيَّرْ» «بيهبع» / فصاح: يا غارتاه
العسكري جا أَلا يا ادياك كلين يسمع/ إلى النّجاة، النّجاه
وطار من اجل يتخّبَى وفي راس «مرنع» / خبَى ورا حوضْ ماه
جا والعجوز اقبلت بعده فطار لكن اسرع/ مثل القطا في الفلاه
خبَى بمطبقْ وهِيْ بعده تصَيِّح لك «اسْفَعْ»/ من جايعات البُزاه
ما حَسّ الا «يَدهْ» من خلف تمسك «وتنتع»/ فصاح واعلى نداه
و»شَلَّتِهْ» وانّ صَوْتِه من نواحه تقَطّعْ/ يبكي وما ارحم بكاه
يقول: يا «شِّبْتِي» «يا نا» عليها وما اسرع / «شاموت» ياعيبتاه(3)
الأهم واللافت والمفيد المعرفي لي في نقاشي المفتوح مع الدكتور أحمد الأصبحي إنه كان يتوقف في تفاسير بعض مفردات اللهجات اليمنية التي تكشفت لي ولأول مرة صلتها بالعربية الفصحى رغم حسبانها في العامية.. كما هو الحال في قصيدة الأستاذ سعيد الشيباني:
(من العدين يا الله بريح جلاّب
والا سحاب تندي علوم الأحباب)
إذ تكشف لي لأول مرة إن لفظة (تندي) ليست شعبية دارجة رغم ظاهرها، وأنها جاءت مصرّفة من النّدى، أي الكرم.. ومفردات عامية كثيرة قادتنا مرة ثانية بشجنٍ من النقاش الأدبي إلى حارس الهوية الوطنية مطهر بن علي الإرياني شاعر اليمن الأصيل ومعجم لهجاتها المتنوعة، وترجمان مسند سبأ وحمير، الذي رسم أنصع الصور الذهنية للجندي اليمني بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر1962:
فوق الجبل.. حيث وكر النسر .. فوق الجبل
واقف بطل .. محتزم للنصر.. واقف بطل
يزرع قُبل.. في صميم الصخر.. يزرع قُبل
يحرس أمل شعب فوق القمة العالية.
وفي سياق هذا النقاش المليء بتقاطعات موضوعية تطوف أزمنة وأمكنة شتى، سرنا في مسار التحولات اليمنية والاجتماعية خلال خمسين سنة مضت، حيث انطلق الحديث من منصة الإشارات الملحمية التي تمر على محطات التحولات.. وكان على سبيل المثال أن ذهبنا في الحديث إلى التجربة المصرية في اليمن عبر حديثنا عن الإعلامي العربي مكرم محمد أحمد حيث يؤكد الدكتور أحمد الأصبحي معرفته عن قرب بهذا الصحفي الذي جاء مع الجيش المصري إلى اليمن كمراسلٍ للأهرام، ومجلة المصور فيما بعد، ليس فقط في أحداث الحرب الملكية الجمهورية بل وأيضاً لحرب التحرير التي شهدتها المحافظات الجنوبية من الوطن، وصولاً إلى الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م..
ثم خرجنا عن سياق الشأن النضالي اليمني للحديث عن ثراء تجربة هيكل المعرفية والمعلوماتية، ولكن في إطار سرد الدكتور أحمد الأصبحي لتفاصيل كثيرة حول الرؤية المصرية العربية تجاه الدعم لمسار النظام الجمهوري في شمال اليمن، ودعم حرب التحرير ضد الاستعمار البريطاني المطبق على جنوب اليمن، ثم ركز على الرؤية العربية بصفة عامة فيما يتصل بالمشروع القومي العربي الكبير المتمثل في الحلم القومي الجماهيري بوحدة الأمة العربية، الذي يشهد اليوم تغييباً ووأداً تحت وقع جاهلية التنافي العربي المعاصرة..   وكان الدكتور الأصبحي ضليعاً في الحديث في شأن معطيات التكامل العربي ومقومات وحدة أمته كحلم كان قائماً قبل مشهد اليوم القاتم بالشتات.. ليس لتجربته الإدارية -المشهود لها بالنجاح- المفتوحة على التنوع حيث شغل -على الصعيد المحلي – منصب وزير الخارجية، ثم وزير الشؤون الاجتماعية والعمل، كما كان عضواً للمجلس الاستشاري، ومناصب أخرى، كما كان عضو لجنة التنظيم السياسي الموَّحَد التي أنيط بها مهمة الإعداد لمستقبل العمل السياسي لدولة الوحدة اليمنية.. وعلى الصعيد العربي- كان عضو الأمانة العامة لملتقى الحوار العربي الثوري الديمقراطي، وعضو المؤتمر القومي العربي، وعضو مؤتمر الأحزاب العربية، عضو الأمانة العامة لمؤسسة القدس، رئيساً للمجلس الأعلى لاتحاد الأطباء العرب.. بل أيضاً لكونه باحثاً سياسياً من الطراز الأكاديمي الإداري المتقدم، يشهد له ثراء ذلك في ما قدمه من مشاريع بحثية قومية رصينة، أبرزها: تطور الفكر السياسي.. (رواده ـ اتجاهاته ـ إشكالياته) عام 2008م، كما قدم عملاً بحثياً يتسم بتميزه بإجرائية الطرح كخارطة طريق للمّ الشمل العربي، وهو أوراق في المشروع العربي، قدمه في ندوات عربية مفتوحة على أرباب الفكر السياسي وجهابذة الثقافة الاقتصادية العربية..
كان النقاش شيقاً في هذا المسار غير أن ضرورة المناسبة السبتمبرية للذكرى الرابعة والخمسين لثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م اقتضت العودة بالحديث –لمحاً- إلى محطات التحولات المعاصرة التي تحدث فيها الأصبحي من ذاكرة المدرك الشاهد على منحنياتها.. فطاف حديثه حول كثير من قضايا الدولة الجمهورية الفتية التي كانت بعد ثورة الـ26 من سبتمبر على محك الاشتباك العسير، محلياً وإقليمياً ودولياً، فمرّت بصعوبات كبيرة وأخطار جمَّة، لكن الانتصار على هذه الصعوبات والأخطار المحدقة بفضل الالتفاف الشعبي والجماهيري الكبير الذي شكل -فيما بعد- قاعدة صلبة لمسار التحولات التي حدثت عقب استقرار النظام الجمهوري الخارج من تضاعيف 7-8 أعوام حرب أهلية قاسية، لم يكن تأثيرها في منأى عن الإنتاج الفكري والأدبي المعاصر للمجتمع اليمني، سواء الإنتاج الشعري والروائي والفني الغنائي الذي يشع من تضاعيفه ألق الحدث السبتمبري والمد التحرري من كل أشكال الوصاية والتبعية والتدخلات الخارجية الهادفة لمصادرة حق اليمن السياسي والسيادي، كما برز من هذه التحولات قوات مسلحة نظامية ووعي شعبي ستتحطم عليها صخرة المؤامرات التي تحاول استهداف أمن اليمن ووحدته واستقراره.. وهنا تذكرت الأبيات الأصيلة من قصيدة الشاعر الكبير عباس الديلمي (دمت للتاريخ محرابا مهابا) والتي موسقت ألحانها الفنانة العربية القديرة أمل عرفات، حيث تقول تلك الأبيات:
“وحدتي من رام منها أن ينال
خاسرٌ يطلب خسْـــــراَ وزوالا
موطني بالحب قد زدت اكتمالا….”
الثورة كخاتمة كفاح
لكن الأهم في هذا السياق أعادني من هذه الالتفاتة.. إلى ما قاله الدكتور أحمد الأصبحي في تأصيله المعرفي لما تمثله الثورة اليمنية السبتمبرية في الذاكرة الجمعية حيث قال في حوار سابق نشرته صحيفة 14 أكتوبر في 2008م:  عندما نتحدث عن الثورة اليمنية ينبغي أن يتبادر إلى أذهاننا جميعاً أن ثورة 26 سبتمبر هي النتاج النهائي للنضال والكفاح الوطني الذي أخذ وقته ونضجت فترته وكان للضباط الأحرار شرف إشعال فتيل الثورة وتفجيرها في ذلك اليوم المجيد. فالثورة ليست ثورة أفراد أو جماعة معينة بقدر ما تعبر عن إرادة شعب اكتملت إراداته وتضافرت جهوده ووصلت إلى تفجير الثورة في ذلك اليوم المجيد, وقد سبق ذلك اليوم إرهاصات متكررة شارك فيها قطاع واسع من الشعب علماء ومفكرين وسياسيين ورجال قبائل وطلابا وعمالا وكانت مشاركتهم على مراحل مختلفة ومتداخلة..
وأكد الأصبحي: أن ثورة 1948م كانت البداية في إحداث الهزة غير العادية في اتجاه مقاومة الظلم والاستبداد، وقد سبقها أعمال شعبية منظمة قامت بها حركة الأحرار والجمعية اليمنية الكبرى الذين طوردوا من قبل الإمامة ونزح الكثير منهم إلى عدن آنذاك. وهناك أتيحت لهم الفرصة لإنشاء الجمعية اليمنية الكبرى التي ضمت كل المناضلين من الشمال والجنوب, وهدفت ثورة 48م إلى قيام دولة دستورية وإلغاء النظام الاستبدادي الفردي. ورغم عدم نجاح الثورة إلا أن عدداً من الثوار استطاعوا النجاة بأنفسهم وكانوا عامل استمرار لحركة الثورة وتواصلها، وكان لثورة 1948م دور كبير في إنضاج ثورة 26 سبتمبر وانتفاضة 1955م في محافظة تعز ومقتل الثلايا وعدد من الثوار، حيث أزكت روح الحنق على الظلم وتفاقمت الأمور وصولاً إلى العملية الفدائية التي قام بها اللقية والعلفي والهندوانة الذين أعربوا عن إرادة شعب في التخلص من نظام استبدادي كما شكلت نقطة من نقاط الثورة والتحرير مع عدد من الحركات مثل حركات الشباب وعصيان القبائل على الحكم الإمامي واستمرار المجاميع الرافضة للحكم الاستبدادي الإمامي.
وأضاف: التخطيط الذكي للثورة من قبل عنصرين هما: العنصر العسكري والعنصر المدني الذي ومع الأسف قليلاً ما نتحدث عنه وينقسم هذا العنصر إلى خطين خط في الداخل وخط في الخارج، فالخط الداخلي تمثل برجال الأعمال بدرجة أساسية وبكثير من المناضلين والجنود المجهولين الذين لم تسلط عليهم الأضواء. وكانت هناك خلية غير عادية داخل مدينة تعز وهذه الخلية كان يغلب عليها الجانب المدني من تجار ورجال أعمال وموظفي دولة مع مجموعة محدودة من الضباط وكان التنسيق بينها وبين خلية الضباط في صنعاء عبر بعض الأفراد الذين نسقوا جهودهم فيما بينهم، وكان التسليح يتم من تعز وعبر عدد من المراحل. ومن العجيب كيفية حصول الثوار على السلاح وكيفية نقله من عدن إلى تعز إلى الحديدة وإلى صنعاء والتمويه في نقل السلاح وروح المغامرة الموجودة لديهم والتي كانت محفوفة بمحاذيرغير عادية خشية أن يكشفوا كما اكتشف الثوار في عام 1948م وكانت عملية نضالية غير عادية على وكان التنسيق واللقاءات بين الضباط الأحرار في صنعاء وفي بني مطر وبمساعدة الكثير من الرجال المحسوبين على الإمام الذين امتلكوا قدرة غير عادية في التخطيط كما عدد من الثوار في الخارج دوراً كبيراً في إشعال الثورة(4)
أخيراً
مع تطوافي المعرفي بصحبة الدكتور أحمد محمد الأصبحي خلال ما يقرب الساعتين تمنيت لو استطال الحديث كثيراً.. ولكن لضيق الوقت قطعت على نفسي وعداً بأن أسجل حديث الذكريات مع الدكتور أحمد الأصبحي في مناسبة قادمة.. وأرجو من الدكتور الأصبحي أن يلبي تلك الرغبة.. أقول هذا وبين يدي آخر إصدار إبداعي إنساني روائي له، رواية ( حُبّ في زمنِ البريسترويكا –بمذاق عسل جردان) حيث صدرت في هذا العام، لقد ظننتها رواية من سياق الخيال غير أني استشعرت من صفحاتها الأولى أنها مغامرة رصدوية بالغة الجودة واللغوية والمعرفية.. لذا سأقف معها في مقام أكثر استفاضة.. وليس غريباً أن يكون النقاش بذلك التشعب والثراء وليس غريباً أن يكون الدكتور الأصبحي ملتحماً وجدانياً وفكراً مع قضايا الوطن والأمة المعاصرة فقد جاء في زمنه تموج فيه المتغيرات وتتسارع أحداثه الدراماتيكة لمسار الحركة الوطنية والقومية العربية، فهو من مواليد 1947م بشعبة جعفر، الأصابح، مديرية الشمايتين. تعز، التحق بالكتاب صغيرا، ثم التحق بمدارس عدن، ثم قطر، وحصل على الدكتوراه من جامعة بغداد، ثم رئيسا لتحرير مجلة الصحة ومديراً للصحة المدرسية، ثم محاضراً في كلية التربية – جامعة صنعاء ـ مجال الصحة المدرسية، وشغل منصب وزير في أكثر من وزارة (الصحة العامة- التربية والتعليم- الخارجية- الشؤون الاجتماعية والعمل) وكان رئيساً لجامعة صنعاء، وحالياً عضواً لمجلس الشورى.. كما شغل الأمين العام المساعد للشؤون السياسية والعلاقات الخارجية للمؤتمر الشعبي العام 2003 ـ 2005م، أمين سر اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام 1982 ـ 1993م… وله العديد من الكتب والأبحاث منها: (تداعيات رحالة في زمن الانكسار) 1996م. وإطلالة على البحر الأحمر ـ النزاع اليمني الأرتيري 1996م.. وإشكالية الصراع في القرن الأفريقي ودور اليمن في بناء السلام.. وواقع مستقبل العلاقات الأمنية بين الجمهورية اليمنية ودول مجلس التعاون الخليجي (2006م).. وأوراق في المشروع العربي.. له عدد كبير من المحاضرات (فكرية وسياسية وتاريخية).. كما شارك في الكثير من المؤتمرات والندوات واللقاءات المحلية والإقليمية والدولية.. كما يعد الأصبحي من قادة العمل القومي العربي.. وكان من أهم المشاركين في القرار السياسي اليمني..

هوامـــــــــش:
(1) من حوار صحفي أجراه الزميل ثابت الأحمدي نشر في موقع اليمن الجديد الخميس, 08 يناير, 2015 م
(2) بتا (أم دَبْـئَهْ) : تعني بهذه الدبعه.. أي بهذه الرأس وترافق هذه العبارة في اللهجة الشعبية إشارة أصبع السبابة إلى الرأس أي أن الشاعر كان حراً كالطائر ليس مقيداً بمسؤليات معينة بل يسيح حيث يريد..
(3)  – الجّبَا :سطح المنزل، جفجف : نفض جناحيه قبل أن يكاكي، كاكي ككاه : ترجمة لفظية لصوت الديك حين يصدح به عالياً من فوق أحد المنازل.- المزراب: حائط يقام حول المزرعة المجاورة للمنزل، والزرب : مجموعة كبيرة من أغصان الشجر الشوكية المتشابكة تمنع الماعز والأبقار من دخول الحول المزروع، وطيّرْ: بتشديد الياء مع الفتح أي وَصل، فصاح : أي الديك، ياغارتاه : عبارة تستخدم للنجدة.- المرنَعْ: هو الممر الذي تسير فيه الدابة هبوطاً وصعوداً في عملية جرّ الماء من البئر بالمسنى، ومعنَى خبَى : تخبّى خلف حوض الماء والمطْبَقْ: يعني الزقاق. – تصَيِّحْ لك اسْفَعْ : عبارة فيها دعاء العجوز على الديك بأن يتسلط عليه أسفع وهو الباز أو الجارح الجائع. – العجوز : هي صاحبة الديك، أيدها : يديها، وتنتع: تشد وتنزع – شَلّتِهْ : أخذته.. – يا شِبَّتِي : يا شبابي، يانا عليها: عبارة يمنية تفيد التحسر والنَّدم على الشيء، وشاموت : أي سأموت، يا عيبتاه: بالشدة الرثاء والإشفاق..
(4) حوار نشر في صحيفة 14 أكتوبر 2008م.

قد يعجبك ايضا