ثــــــورة الأدب وأدب الــثـــــــــورة

إن أدب الثورة قد أسهم في ترسيخ الثورة ذاتها وفي تحديد ملامحها وطنياً وعربياً وإنسانياً

إن السمة الأساس في الأدب الذي أسهم في صنع الثورة، تتمثل أولاً في البساطة، وتتمثل ثانياً في التماهي في الموضوعات

هذا البحث جزء من مشروع كتاب ، كنت أزمع كتابته في أواخر الثمانيات ، لكن المشاغل الكثيرة حالت دون انجاز ذلك المشروع، الذي لم أكن أتوقعه قراءة جديدة للشعر الثوري فحسب ، وإنما أردت أن يكون  قراءة جديدة لمرحلة مهمة من تاريخ اليمن في النصف الأول من القرن العشرين . ويكاد عنوان هذا البحث يوجز مضمونه ، فهو يتألف من قسمين: أحدهما عن ثورة الأدب ، وفيه يتحدث البحث عن دور الكلمة في صنع الثورة والتهيئة لها والدفاع عنها. والآخر ، عن أدب الثورة ويقرأ دور الأدب الذي صنعته الثورة، وهيأت له المناخ المناسب للانطلاق نحو الآفاق الجديدة ؛ بعيداً عن القيود والسدود التي عانى منها الأدب سنوات ما قبل الثورة ، واقتصاره على الشعر في شكله التقليدي مع استثناءات متحدية جاء أغلبها من شعراء ومبدعين عاشوا خارج نطاق دولة الكهانة والتخلف منقطع النظير .

وإذا كانت ثورة الأدب قد أسهمت في الإيقاظ والتحريض على دكّ النظام العقيم في شمال الوطن ، ودحر الاحتلال الأجنبي في جنوبه ، فإن أدب الثورة قد أسهم في ترسيخ الثورة ذاتها وفي تحديد ملامحها وطنياً وعربياً وإنسانياً ، وأسهم في الانفتاح على التجارب الإبداعية في الوطن العربي والعالم ، وحقق كل هذا الثراء الفني في الشعر بأشكاله المختلفة في القصة والرواية ، وفي الكتابات المسرحية . وإذا كانت ثورة الأدب قد تمحورت حول الواقع – الذي كان قائماً – بمآسيه وتخلفه وصوره المفزعة ، فإن أدب الثورة قد تمحور حول المستقبل بكل ما يحفل به من حنين إلى الزمن الجديد، ومن أحلام وأشواق ورفض لكل ما تبقَّى عالقاً من مخلفات العهدين البائدين.
لقد عَبَرت القصيدة من خلال الثورة من الماضي إلى الحاضر وشهدت ثورة حقيقية في الشكل والمضمون، وأفسحت الطريق لدخول أشكال جديدة في الكتابة الإبداعية؛ استهوت عشرات الشبان  المبدعين ذوي المواهب العالية بغض النظر عما تسرّب إلى صفوفهم من عجزة وأدعياء . وخرجت القصيدة والرواية عن قواعدهما التقليدية إلى فضاء أوسع . ويمكن القول باختصار شديد: إن الأدب قد نجح في إقامة الثورة ، وإن الثورة نجحت في فرض الانفتاح وبث الحياة في الأشكال الأدبية واغنائها من الداخل باللغة الجديدة ، والصور المثيرة المدهشة. وبذلك يكون الأدب قد قام بواجبه نحو الثورة وتكون الثورة قد قامت بواجبها تجاه الأدب كما ينبغي أن يكون .

-1-
* ثورة الأدب:
لن نعرّج في هذا البحث على تلك القصائد التي عكست في ثناياها ملامح التململ ، وحملت إشارات البدء في التمرد ، لأن الحديث عنها يفضي إلى التوسع في قراءة الظروف التي أبدعتها ، وكانت ورائها ، وما عبرت عنه من شكاوى ونقد غاضب. ومن المهم أن تكون البداية من تلك القصائد الصارخة الصريحة التي مثلت ثورة الأدب شعرياً ، ودعت إلى التغيير والخلاص من نظام العبودية علناً وبلا مواربة . والموضوعية المطلقة تضعنا في البدء وجهاً لوجه مع أهم شعراء الثورة اليمنية وأصفاهم روحاً وشعراً ، وأشدهم إحساساً بضرورة التغيير ، واعني به الشاعر الشهيد محمد محمود الزبيري صاحب هذا الصوت الوطني العميق :
ناشدتك الإحساس يا أقلام
أتزلزل الدنيا ونحن نيام
……..
ما لليمانين في نظراتهم
بؤس وفي كلماتهم آلام
جهل وأمراض وظلم فادح
ومخافة ومجاعة وإمام
والناس بين مقيدٍ في رجله
قيد وفي فمه البليغ لجام
أو خائف لم يدر ما ينتابه
منهم أسجن الدهر أم أعوام.
والاجتماع جريمة أزلية
والعلم إثمٌ والكلام حرام
( الأعمال الكاملة ص 298)
هذا شعر يحرك الأحجار فضلاً عن البشر ، ويجعل كل شيء في اليمن يثور ويقاوم العهد الظلامي الذي كان يحكم البلاد ويسخر من الملايين . ولم يكن هذا الشعر أنيناً ولا نواحاً بل كان الإشعاع الذي اتسعت رقعته ووصلت أنواره إلى أقصى قرية من قرى البلاد فضلاً عن المدن . وعلى الرغم من الكتابات الكثيرة التي حظى بها  هذا الشاعر الكبير فما يزال شعره ، والسياسي منه بخاصة بحاجة إلى دراسات ومقاربات تحليلية للغته بصفة عامة ، ولدلالاته بصفة خاصة ، ولقدرة الشاعر على إيجاد مساحة شاسعة من التواصل والتفاعل مع الجمهور، أنه شاعر ذو قضية بل هو شاعر القضية.
ومن النافل القول بأن هذا الشعر الثوري استحوذ على مشاعر الناس في الوطن ، وحٌظي بكثير من الاهتمام في الأدب والسياسة على وجه الخصوص ، كما وصل إلى صفوف الطلاب النابهين في المدارس الذين كانوا يرددونه في الخفاء ، وساعد على تكوين وجدانهم الوطني . ولو استطاع قارئ اليوم أن يعود بذاكرته إلى زمن ظهور هذه القصيدة ، التي اجتزأت بضعة أبيات منها لاستطاع أن يتبين أثرها على الشعب ، فقد نجحت في أن تصور بدقة متناهية المعاناة الواقعية لليمنيين تحت حكم الطغيان ، وفتحت الباب واسعاً لنبش الأحاسيس الدفينة في الصدور ، وعملت على استثارة أقصى ردود الأفعال المطلوبة للتغيير ، ولا ننسى أن القصيدة بدأت بمخاطبة الأقلام في إشارة ضمنية إلى الكتابة بعامة وإلى الأدب بخاصة ، هذا الذي عليه واجب شرح ما يعاني منه الناس وما يطمحون إلى تحقيقه .
ولدارس القصائد الثورية لدى الشاعر محمد محمود الزبيري أن يدرك أبعاد التدرج في ثورته الشعرية من التشاؤمية الصارخة إلى التقريرية المتفائلة التي تبشر بالنصر العظيم:
الملايين العطاش المشرئبة
بدأت تقتلع الطاغي وصحبه
سامها الحرمان دهراً لا يرى الغيث
إلاَّ غيثه والسحب سحبه
لم ينل جرعة ماء دون أن
تتفاضاه بحرب أو بغضبه
ظمإت  في قيده وهي ترى
أكله من دمها الغالي وشربه.
( المصدر نفسه ص 111)
ولنتوقف عند هذه الصرخة التي سبقت الثورة بأربع سنوات فقط ، وجاءت ضمن تحية باسم أحرار اليمن إلى أحرار العراق ، الذين تخلصوا في لحظة سعيدة من كابوس الملكية المرتبطة بالاحتلال البريطاني ، وبتاريخ طويل من العمالة ، والاتصالات المباشرة وغير المباشرة . لقد أعطت ثورة 14 تموز 1958م دفعة للثائرين العرب في جميع أقطار الوطن العربي ، وشكلت إنذاراً بقرب زوال الأنظمة الملكية بوصفها أوكاراً للتآمر على الأمة العربية وأبنائها في السر والعلن :
صيحة الشعب .. في بلاد الرشيد
أشعليها ناراً وثوري وزيدي
أزحفي كالطوفان يا ثورة الشعب
ظ ودمري كالرعود
طهري جونا من الموت والصمت
… وهزي لنا بقايا اللحود
أخوة نحن في القيود فهيا .
لنكن إخوة بخلع القيود
وما تجدر الإشارة إليه أن الشاعر الذي كتب مثل هذا الشعر لم يكتب القصيدة الثورية فقط ، بل رسم طريق الثورة وأسس للشعر الثوري كما ينبغي أن يكون  مواجهاً للطغيان وتنويراً للشعب وارتقاءً بوعيه الوطني إلى درجة تجعله قادراً على مقاومة كل صنوف الظلم بما فيه الظلم الذي كاد يكون إرثاً تاريخياً وقدراً لا فكاك منه ، لقد ساق الزبيري في قصائده ما لا يحصى من الأمثلة على التعذيب والقسوة وما عاناه الشعب من إذلال وامتهان ، ووجب عليه أن يتحرر ويفيق .
لقد أنتجت المرحلة الممتدة من أوائل أربعينيات القرن المنصرم إلى أوائل ستينياته شعراً نضالياً ينضح بالتحريض والتبشير والتنوير ، التنوير بالحرية وبالحقوق السياسية والاجتماعية . وفي قصائد أقرب ما تكون إلى المناشير الرامية إلى صياغة لأهداف سياسية في وضوح ، كما هو الحال مع قصائد الشهيد زيد الموشكي ، الذي لم يكن يهمه سوى الوصول إلى الجمهور ولمس همومه والتعبير عن قلقه ومعاناته ، وكان حريصاً على أن يخاطب الحاكم الطاغية مباشرة مهدداً له ومتوعداً :
ستقرع بعد اليوم من ندمٍ سنا
إذا ما فؤاد الشعب باح بما جنّا
ولبى اُباة الضيم أصوات هاتف
بهم أسمعت أصواته الأنس والجنا
ينادي بأعلى صوته قائلاً لنا
ألا استيقظي يا أمة اليمن الوسنى
لقد طال هذا النوم حتى كأنكم
أوى منكم الأقصى إلى الكهف والأدنى
ولكنه كهف شديد ظلامه
مخوف وأهل الكهف نالوا به أمنا.
( زيد الموشكي شاعراً وشهيداً ص 208)
يستمر أدب الثورة وتتوهج قصائده الملتهبة ويعّدُ الشهيد الموشكي شاعراً سياسياً ، وشاعر مقاومة بامتياز يسعى في قصيدته إلى تحقيق البنية التي تؤكد تأثيرها وثوريتها بغض النظر عن افتقارها إلى الأبعاد الفنية وعجزها عن التحليق في سماوات الخيال ، وكان وقعها على الحاكم شديداً وقاصماً ، واستطاعت أن تأخذ طريقها إلى قلب القارئ وتحلّق في وجدانه.
وفي هذه الفترة من أربعينيات القرن المنصرم التي ظهرت فيها القصائد الثائرة للزبيري والموشكي ، لفتت الانتباه قصيدة لشاعر شاب هو لطفي جعفر أمان يرسم فيها أوضاع اليمن بشعر فيه الكثير من الحزن والألم والثورة والكثير من التأمل الحائر:
جار الزمان عليك مستور الخفا
لا خالياً أبقى .. ولا مأهولا
ولقيت من عنت الولاة وعنفهم
ما راع قلبك جائراً ومهيلا
جلدوا العدالة وهي تقطر بالدما
في كل سجنٍ روع الباستيلا
لهفي على تلك المقاصف روعتْ
وغدا البكا عن الغناء بديلا
وعلى شباب شط عن  أوطانه
وقضى الحياة تلفتاً .. وذهولا
وعلى رجال في الجهالة نومٍ
قطعوا الزمان جهالة وخمولا
قد ما مضى ركب الشعوب وركبهم
يرتد خلفاً للعصور الأولى .
( لطفي جعفر أمان : الأعمال الكاملة ص 97)

الحديث هنا في قصيدة لطفي عن اليمن كله بعد أن تحسس أبناؤه في الشمال والجنوب على السواء ما أحاق به من ظلم وتخلف ، فلم يكن هناك في عالم أواخر النصف الأول من القرن العشرين بلد جار عليه الزمان كما جار على اليمن ، كما لم يكن هناك بلد يتراجع نحو العصور الأولى بسرعة مثيرة للذهول كاليمن المبتلى بنوع من الحكم يتمسك بتلابيب التخلف، ويتباهى بما يتركه على جسد الواقع من خلل وعاهات ، ومايفرزه من أشكال البؤس والحرمان والتشرد . ويلاحظ أن لطفي أمان لا يعتمد في قصيدته على الدلالة الثورية وحدها ، وإنما يعززها بشبكة من الصور الفنية التي تعطي ما للثورة وما للشعر في آن .
وفي فترة متقاربة مع قصيدة لطفي ، تأتي قصيدة الشاعر إبراهيم الحضراني بأسئلتها الحادة وامتزاجها الكلي مع الظرف الوطني الذي ساد سنوات ما بعد سقوط الثورة الدستورية من شعور بالإحباط ، وشعور مؤقت بالانكسار وما تخلله من نصب أعواد المشانق للمناضلين الذين حاولوا إخراج اليمن من الوضع البائس فعاكستهم الظروف وواجههم الطغاة بوحشية منقطة النظير :
حتام يا وطني أراك تضام
وعلى جبينك تعبد الأصنام
وإلى مَ يرتفع الطغاة ويعتلي
عرش التبابع معشر أقزام ؟
وتظل يا مهد الجدود ممزقاً
مهد الخطوب تدوسك الأقدام
حتام يمضي بالرزيّة والأسى
عام ويأتي بالرزيّة عام ؟
اليوم بالزفرات عام قد مضى
ولى تشيع نفسه الأيام
ولى وقد طعن السعيدة طعنة
برحالها الأحرار لا تلتام
نصبت على الأعواد فيه جهرة
جثث الأسود كأنها أغنام .
( ديوان الحضراني : ص 371)
شعر كهذا لا بد أن يكون قريباً من العواطف الثائرة ، وأن يجد صداه السريع في أوساط الناس المتعلمين منهم وغير المتعلمين ، ولم يكن تعميمه عن طريق التداول الشفهي يسيراً ومع ذلك ، فقد اتسعت به دائرة المعارضة ، وزادت مساحة إحياء الشعور الوطني ، وصار بلغة التواصل اليومي في أوساط المتمردين والحالمين بمستقبل جديد ، يحرر البلاد من طغاتها ومن الأيام السوداء التي سئم الشعب من تكرارها . ولا بد أن مجالات التأثير قد بلغت ذروتها القصوى بدخول القصيدة الجديدة إلى ساحة النضال الوطني في شكلها وانزياحاتها عن القالب التقليدي . وكان الشاعر علي عبدالعزيز نصر في طليعة مبدعي هذا النوع من الشعر وله ديوانان كاملان “أنا الشعب” و”كفاح شعب” صوّر فيه مأساة الوطن عبر شعر التفعلية المختلف عن القالب الشعري السائد ، وفي الديوانين المشار إليهما تناول بوضوح لا غموض فيه ولا إيماء محنة اليمنيين بأبعادها السياسية والاجتماعية ، وتولى فضح الأساليب والألاعيب الاستعمارية والإمامية في تمزيق وحدة الشعب، ومحاولة إشغاله بالخلافات المذهبية والمناطقية كما في القصيدة الآتية :
أبداً وأقسم يا ثعالب
أن البلاد بلادنا
فيها ترعرع شعبنا
….
أبداً سيجتاز المتاعب
عبر القرون
ما زال يلهمنا البطولة ” سد مأرب ”
أبداً وأقسم يا ثعالب
يا من تثيرون الزوابع
نحن اليمانيين كل رجائنا
في أرضنا
أن ينقضي ليل المطامع
أن ينقضي العهد الذي بذر الشقاق
” فرق تسد ”
كانت ومازالت
سياسة غاشمٍ بذر الشقاق
في أرضنا
يا من يثيرون الزوابع
( ديوان كفاح شعب ص 13)
ومما يؤسف له أن تجربة هذا الشاعر ذات الخصوصية المنفردة ، لم تجد من الدارسين ما يكفي لوضعها في سياق ثورة الأدب أو بالأصح ثورة الشعر، وما اتصفت به هذه التجربة من جرأة في الشكل  والمضمون ، ومن عمق في المعاني وتجاوز لتأثير المكان الذي سادت فيه القصيدة البيتية ، وكانت في نظر الغالبية هي الشعر وما سواها نثر غير قابل لأن ينتسب إلى دائرة الشعر التي ضاقت وكانت بحاجة إلى ثورة تشبه إلى حد كبير تلك التي كان الواقع السياسي والاجتماعي يحتاج إليها ، لكي تتنفس اللغة وتخرج من مسارب التقليد والجمود .
ومن هذا المناخ المختلف ، مناخ استكشاف أشكال جديدة ومشاعر جديدة خرجت القصائد المتمردة ذات التعبير العالي في اللغة والصياغة الفنية والموقف الثوري . ويمكن لأي متابعة سريعة أو متأنية أن تثبت الدور الريادي المتقدم للشاعر عبده عثمان هذا المبدع الذي نجح في الاستعانة بالأساطير واستخدام الرموز ، وشكّل شعره انتقالةً حقيقية في تاريخ القصيدة الجديدة في اليمن :
بلادي شرود بفكري
وأطراقة في فؤادي
نداءٌ تمشي بسمعي
وأسلمني للسهاد
فأمشي وحيداً
ويمشي معي كل كوخ ووادي
وتمشي جبال ..
حقول موشحة بالسواد
ويمشي حريق كبير
أنا فيه بعض الرماد
وجمعت ريشي
وأطلقت نفسي لحفق الرياح
وقلت : لما لا أحط على ” بنّةٍ ” ياجناحي
فمن حقل بنٍ
ومن أنة النهر منه جراحي
( الأعمال الكاملة ص 32)
الشعر سفر بأجنحة  الكلمات ، وفي قصيدة عبده عثمان سفر مدهش ومثير يحقق هذا المعنى المجازي ، وهو في هذه القصيدة يعبر من الأكواخ والوديان والجبال ، والحقول ، ويمشي بنا عبر الحريق الكبير ، حريق الوجدان والحنين إلى الوطن المكبل كحقوله بسواد ، ليصل بنا أخيراً إلى حقل البن ، رمز اليمن الذي كان غارقاً في التخلف والعزلة ، وحيث ملايين الناس يحترقون ولا يكفون عن حديث الحرية والخروج من بين القبور:

يا من يغادر القبور
يا شعبي الذي يثور
لا بد أن يعود “ذو يزن”
وثائرون يهتفون في “عدن”
ومـأرب ، وحضرموت لليمن
غداً سنابك الخيول
مجنونة تدوس أبرهة
وتختفي إلى الأبد
عيون ليله المشوهة
( المصدر نفسه : ص 124)
ما أصدق هذا التصوير الرمزي وما أعظم أثره على النفوس. وإذا كان دور الشعراء الذين نادوا بالثورة مهماً فإن دور الشعراء الذين سارعوا  إلى الاحتفاء بالثورة بعد قيامها، وساعدوا بإبداعاتهم على ترسيخها، والدعوة إلى الالتفات حول مبادئها، لا يقل أهمية وجرأة وصدق إقامتها ويتجلى الاحتفاء بالثورة والدعوة إلى ترسيخ مبادئها كأقوى ما يكون في قصائد الشاعر عبدالله البردوني، ومنها هذه القصيدة التي كتبها في الأيام الأولى للثورة. وتولت تجسيد الحقيقة الغائبة لدى الأكثرية بما فيه الكفاية الساحقة من أبناء الشعب، والتي تؤكد أنهم الأحق بأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وأن يكون من حقهم اختيار الحاكم الذي يريدونه لا الذي يُراد لهم، وتختزن ذاكرتي الكثير من تأثير هذا المنحى من الشعر الثوري؛ بما أشعله من ضوء الوطنية في أذهان الشباب:
لن يستكين ولن يستسلم الوطن
توثب الروح منه وانحنى البدنُ
أما ترى كيف أعلا رأسه ومضى
يدوس أصنامه البلها ويمتهن
وهب كالمارد الغضبان متشحاً
بالنار يجتذب العليا ويحتضن
فزعزعت معقل الطغيان ضربته
حتى هوى وتساوى التاج والكفن
وأذَّن الفجر من نيران مدفعه
والمعجزات شفاه والدنا أذن
لا البدر لا الحسن السجان يحكمنا
الحكم للشعب لا بدرٌ ولا حسن.
(الأعمال الكاملة: ص )

لقد كان واضحاً أن التنافس –قبل الثورة- على من يحكم البلاد بعد الإمام أحمد على أشده بين أمراء الأسرة البائدة ، والصراع الأكثر وضوحاً في هذا الصدد  هو ذلك الذي كان قائماً بين البدر والحسن ، وهذا الأخير كان يظن نفسه الأحق بولاية العهد، لأنه أكبر الأحياء من أبناء الإمام يحيى بالإضافة إلى كونه صورة طبق الأصل من والده، في تشدده وحرصه على إغلاق كل النوافذ المؤدية إلى الحياة الجديدة، التي كان الشعب يحلم بها وكان له أنصاره الذين يرون فيه اكتمال شروط الاستمرارية على النهج التقليدي الرافض لأي تغيير . وقد اختزلت القصيدة السابقة الهدف الحقيقي للمواطنين اليمنيين الذين يؤمنون بأن الحكم للشعب لا للبدر ولا للحسن.
وفي انتصاره لثورة السادس والعشرين من سبتمبر، يطالعنا الشاعر محمد سعيد جرادة بتهنئة الجيش والشعب في قصيدة هي أقرب إلى البرقية، ولكنها تختزل كل الأحلام والآمال وتعتبر الثورة رهاناً أساسياً للتغيير المنتظر:

نهنئ الجيش والشعب المجيدا
فقد صفا لنا الفجر الجديدا
وقد قضى على عهد انحلال
تصرّم مثل أمس ولن يعودا
فتحنا اليوم للتاريخ بـابـا
وحطمنا السلاسل والقيودا
وشيدنا لحكم الشعب صرحا
وهدّمنا الحواجز والسدودا
وأرضـينا بوثبتـنا جمـالاً
فتى الدنيا وأغضبنا سعودا
تحياتي إلى أبطال قومي
إلى من أوجدوا اليمن السعيدا
ولو أني استطعت جعلت شعري
على الأعداء ناراً أو حديدا
(الأعمال الكاملة: ص355)
وفي بهجة غامرة وإيمان راسخ بحرية الوطن تأتي قصيدة الشاعر علي بن علي صبرة الذي قادته الثورة إلى التغني بأمجاد الأمس البعيد في قصائد مطولة ليست هذه القصيدة الاحتفائية إلاّ نموذجاً واحداً منها:
آلا قد وصلنا إلى غايةٍ
بذلنا إليها زكي الدماء
عدونا على الظلم حتى هوى
إلى قبره صاغراً مرغماً
قطعنا إليها دروب الشقاء
وكنا الردى اللجج المعدما
فإن أشفق الموت من نفسه
على ظالم نحن لن نرحما
وفوق الجماجم فوق الجباه
هتفنا بوحدتنا تسلما
صبرنا عليهم مئات السنين
وثاراتنا تتلوى ظِما
إلى ليلةٍ من ليالي الخميس
تجلّت فلله ما أعظما.
(قصائد حب وحرب ص268)
لا يستطيع الشعر أن يدعي أنه وحده صانع الثورة في اليمن ، فقد شاركته في هذا العمل العظيم – وإن في أضيق الحدود – أشكال من النثر السياسي والأدبي ، منها المقال والقصة القصيرة والرواية . وإن كان الوقت لا يتسع سوى لإشارتين عابرتين خالدتين، تمثلان المعنى الكبير لما هدفت الدراسة إليه، وهما رواية ” مأساة واق الواق ” للشهيد محمد محمود الزبيري. و”قصة الغول ” للشهيد محمد عبدالولي .
كان الزبيري عند ما كتب “مأساة واق الواق ” قد وصل إلى درجة عالية من النضج الفكري والأدبي، أدرك معه محدودية دور الشعر مهما أعطاه صاحبه من روحه وحياته وثقافته ، فأراد أن يجرب هذا الفن السردي بتقنيات تتناسب مع وعيه وإحساسه بالمسؤولية تجاه قارئ يجهل التطور الذي لحق بعالم السرديات ، وخرج بها عن مجال التأثير السياسي والاجتماعي المباشر . وقد استطاع الزبيري أن يطرح من خلال روايته البديعة ما عجز عن طرحه في شعره ، وأن يطوّف بقارئه مساحات من الأرض والفضاء، وأخرى من الجنة والنار، وأن يقدم من خلال صياغة  فنية تجمع بين الواقعي والخيالي عالماً زاخراً بمكونات الخيال ومعطياته. وما من شك في أن الزبيري الروائي قد نجح من خلال استدعاء التراث الماضي وإحضار عشرات الثوار عبر العصور ؛ أن يقنع المترددين باعتناق مبدأ الثورة والخروج على الظالمين والغزاة المحتلين الأجانب الذين شطروا الوطن وتمترسوا في الجزء الجنوبي منه “وأرض واق الواق” مبتورة إلى جزئين: جزء ينهشه الاستعمار وجزء يربض فيه الطاعون الرجعي. ويريد هذا وذاك أن يقطّعا شعب هذه الأرض تقطيعاً ثانياً باسم المذاهب الدينية. وتقطيعاً ثالثاً باسم السلالات العنصرية وتقطيعاً رابعاً إلى قبائل ومدنيين، وتقطيعاً خامساً وهو أخطرها جميعاً وأشدّ فتكاً لأنه يصطبغ بصفة متحضرة حديثة تحت شعار الديمقراطية ، وذلك هو التقطيع إلى هيئات ومنظمات متناحرة لها نشاط وحياة وعمل دائب يواصل البتر والتقطيع ويجعل لكل أنواع الانقسامات البالية التي يخجل المثقفون منها قناعاً حديثاً ومنطقاً عصرياً ويحاول أن يجعل لها وجوداً حياً بعد أو أوشكت على الاندثار”.
(مأساة واق الواق، ص105)
ومهما قيل عن ضعف التقنية الروائية في ” مأساة واق الواق “، فإنها كانت وستبقى ملحمة وطنية من تلك الملاحم الإبداعية التي أنجزتها الشعوب في سنوات كفاحها الدامي ضد الغزاة والطغاة . ويكفي أن حياة الشهيد محمد محمود الزبيري كانت من مبتدأها إلى منتهاها رحلة نضال بالكلمة والفعل بالشعر والنثر . وكان بإبداعه وسلوكه النموذج الذي كانت الثورة اليمنية تبحث عنه وتستمد منه القدرة والمثال.
وفي الوقت ذاته لم يكن محمد عبدالولي المبدع والفنان الذي خسره الوطن، وهو في عنفوان إبداعه سوى الابن البار للثورة، نشأ في أحضانها وترعرع في كنفها، احترق بنار الغربة ، وعانى من أهوال الإقامة في الوطن . فجاءت أعماله الإبداعية المتنوّعة من القصة القصيرة والرواية والمسرحية تعبيراً حقيقياً عن هذا الانتماء؛ وما اختزنه في تلافيف ذاكرته ووجدانه من صور البؤس والشقاء، كما عاشها الإنسان اليمني في الغربة والوطن. وما اختياري لقصة “الغول” من بين كل أعماله المجسدة للثورة ونزوعها الاجتماعي والسياسي إلاَّ لأنها الأقرب إلى التحريض المباشر بالثورة، والدعوة إلى إسقاط الغول الذي حكم البلاد بالحديد والنار والجهل والخرافة.
كتب محمد عبدالولي هذه القصة ونشرها قبل أعوام ثلاثة من قيام الثورة، وهي تحكي قصة غول أو طاغية استوطن غاراً في أحد الجبال وبدأ يصطاد ضحاياه من أبناء القرية والقرى المجاورة ، وأشاع عن نفسه أنه لا يموت ولا يتأثر بالرصاص “ومضت الأيام والغول يزداد سيطرة وتزداد ضحاياه ويصبح ملك الجبال وملك القرية… بل ويملك أيضاً أرواح أولئك الذين جثوا أمامه… وبمرور الأيام كانت أساطير جديدة تظهر وأحاديث العجائز تدور حول الغول.. والغول فقط. حتى الأطفال كانوا يرددون ببلاهة أحاديث العجائز وعيونهم معلقة بالجبل”.
(الأعمال الكاملة: الأرض يا سلمى، ص18)
وفجاءة يصاب طفل في العاشرة من أبناء القرية بمرض خطير ، وليس له سوى أمه الفقيرة البائسة بعد أن مات أبوه المهاجر في أعماق البحار، حاولت الأم علاج طفلها، زارت القبور وعرضته على جميع الأولياء وأخيراً علمت أن دواء ابنها هو قلب الغول، لم تتردد “هند”، وهذا هو اسم الأم، وجمعت كل ما في الإنسان من شجاعة وحب لطفلها، وهجمت على الغول في غاره المرعب وقتلته، وانتزعت قلبه وأنهت الأسطورة . تلك هي خلاصة القصة الرمزية التي حملت رسالة وطنية ثورية إلى كل أب وإلى كل أم بأن في مقدورهما إنقاذ الصغار والكبار من بطش الطاغية وجبروته، وأن في استطاعة البشر أن يتخلصوا من الخرافة والطغيان في وقت واحد كما فعلت هذه الأم الشجاعة. وأي تحريض أعمق وأصدق من هذا التحريض على الخلاص من غول الواقع وما ألحقه بالناس من قهر وإذلال. والقصة تعطى حكمتها عبر الرمز الفني وليس المباشرة أو النقل الحرفي للواقع.
أخيراً ، إن السمة الأساس في الأدب الذي أسهم في صنع الثورة، تتمثل أولاً في البساطة، وتتمثل ثانياً -وفي الشعر بخاصة- في التماهي في الموضوعات ، وفي أن أغلبه ذو وجه واحد لا تتعدد قراءاته وتفاسيره، وعلى العكس من ذلك الأدب الذي صنعته الثورة، فهو متـنوع الأبعاد، ويكشف عن طرائق تعبيرية متعددة لا سيما لدى الأجيال الجديدة، التي تجسدت بهم الثورة وتجسدوا بها وإن كانت هذه الأجيال قد بدأت تقدم في كثير من الأعمال الأدبية -شعراً ونثراً- وعالجت مشكلات الواقع من خلال الذات كمركز للعمل الإبداعي وليس بمعزل عن الآخرين وقضاياهم ، وفي هذا ما يقودنا إلى دعوة القارئ لهذا الأدب إلى التعمق والتأمل في قراءة نماذجه المتنوّعة، بوصفها حالة فنية ثورية بالإضافة إلى كونها حالة ثورية اجتماعية… وقد لا تعكس بعض النماذج الأحدث عن انعزال المبدع بمقدار ما تعكس عن رغبته في البحث عن أشكال أدبية مؤثرة فنياً وجمالياً. ولن يتسنى لنا تبيين ذلك والوقوف على بنيته الجديدة وفضائه الأسلوبي الواسع سوى في دراسة استكمالية قادمة.
* من أوراق عمل الندوة التي نظمها مركز الدراسات و البحوث اليمني تحت عنوان (الثورة اليمنية سبتمبر واكتوبر) في عيدها الذهبي

قد يعجبك ايضا