الغربي عمران
الروائي المصري مصطفى سليمان ينسج الرواية التاريخية بامتياز.. بل ويمكننا أن نطلق عليها الرواية الجغرافية.. “بارباروسا” عمل ضمن عدة أعمال روائية لافتة وظفها كتابها لسنوات محاكم التفتيش البشعة.. ويمكننا أن نصفها بأدب المورسكية.. مثل ذلك التصنيف: أدب الحرب.. أدب البحر “حنا مينة”.. أدب المقاومة “سيد نجم”.. وأدب الصحراء ابراهيم الكوني. وفي أدب المورسكيين يأتي وتأتي عشرات الأعمال الأدبية ومنها الرواية التي سلط كتابها الضوء على تلك السنوات ومنهم: الروائي الجزائري واسيني الأعرج الذي وهب سنوات عمره لكتابة رواية هذا الشعب الذي تعرض لأبشع أنواع التنكيل.. حتى أننا ومن خلال أعماله الرواية أضحينا نعرف أدق التفصيل لتلك الجرائم الإنسانية التي مارستها الكنيسة على شعب بتهمة بعده عن طريق الدين. وكما الأعرج يأتي الروائي الأسباني أنطونيو غالا عاشق الأندلس العربية.. جعل من تلك الأندلس وتاريخها موضوعا أساسياً للكثير من أعماله الشعرية والمسرحية والروائية ولعل أشهرها “المخطوطة القرمزية”. ” وكذلك الأديب المغربي حسن أوريد..وروايته “المورسكي”.. والمصري موسى صبحي في “المورسكي الأخير”.. والروائي منيرعتيبة وروايته “موجيتوس”.. وغيرهم.
رواية “بارباروسا” صادرة عن دار غراب في القاهرة 2015م . تحلق بنا في عوالم البحر المتوسط من خلال 350 صفحة من الحجم المتوسط. وذلك الكائن الشبيه بالأسطورة خير الدين يصطحبنا في عوالم مدهشة.. عوالم يشعر فيها القارئ بأنه يعرف خيرالدين .. وأن تلك الأحداث تقع موقع الصدق الفني من النفس. وقد أتخذ الكاتب من خير الدين .. أو خضير كما كان يطلق عليه والده يعقوب.. أو بارباروسا كما أشتهر به بين أوساط سكان الأبيض المتوسط. وهو ما يعني الرجل ذا اللحية الحمراء.. لفظ بارباروسا أصبح رمزا للرعب والفزع.. بين أوساط تلك المجتمعات البحر كقرصان لا يرحم.
من المؤكد أن من ينجز مثل هذه الأعمال لا يكتبها إلا بعد إعداد وقراءات في تاريخ عصر الأحداث والشخصيات.. بل ويلم بجغرافية أحداثه إلماماً واسعاً .. وما يلفت الانتباه أن هذا العمل يمكننا أن نصفه بالرواية الجغرافية إضافة لصفة الرواية التاريخية. حيث طاف بنا الكاتب من الشرق فارس إلى الشام ومصر والعثمانية وشمال أوروبا ووسطها وجنوبها ثم مصر وكل شمال إفريقيا. بل والعالم الجديد.. فلو كتبنا حول مدن الرواية لاحتجنا إلى مزيد من الوقت. ولذلك سنذكر بعضها دون تعليق.. مثل: أنطاليا.. مرسيليا..رودس.. بودرم.. ميدلي.. قابس.. جربة.. قشتالة.. غرناطة.. قبرص.. مالطة.. سردينيا.. كريت.. صقلية.. مستغانم.. جيجل..بجاية.. طليطلة.. تلمسان.. وهران.. موناكو.. نابولي.. بلنسية.. مالقة.. اسطنبول.. جنوة.. تاجورة.. جبل طارق.. البندقية.. بودا بست..رودس.. فينا ..بلغاريا. وأسماء كثيرة لم نسمع عنها من قبل .
ذلك النطاق الجغرافي التي تدور حوله أحداث الرواية يتجاوز إلى العالم الجديد إضافة إلى آسيا وأوروبا وإفريقيا. تلك المدن والعديد من الأماكن لم ترد جزافا.. إن أحداث الرواية ربطت بينها بشكل مدهش رغم تباعدها. بداية بتحرك أسرة يعقوب وانطلاقهم من جزيرة لإغاثة المورسكيين من شواطئ إسبانية هربا من البطش الكنيسي.. مرورا بما يعتمل في شبه جزيرة إيبريا ضد كل ما يخالف الكاثوليكية .. وكذلك ما يقوم به فرسان القديس يوحنا من جزيرة رودس لحماية وتطبيق أوامر الرب. وما تقوم به الدولة العثمانية من توسعات نحو الشرق.. والغرب وشمال افريقيا مركز آل يعقوب وتوسعهم إلى جزر وشواطئ البحر المتوسط.
صراع تلك القوى وغيرها يمكن لنا أن نتخيل حروبا مغلفة بالدين وما تنتج عنها من مذابح وكوارث تراها مجتمعات ذلك الزمن مشروعاً خاصة إذا ما غلفت باليدين ونصرة الرب.. حينها يتشرد ملايين البشر. ويمكننا أن نقيسها على ما يحدث في عصرنا مع فارق نوعية السلاح .. ووسائل الاتصالات وتشابك أجهزة المخابرات التي ترعى المصالح على جثث الأبرياء. وتدمير عرى السلام بتنظيم وتمويل الجماعات المتطرفة واستخدامها لحماية مصالح المجتمعات الأكثر قوة.
وما تلك الأسماء التي تزيد عن الخمسين اسماً التي أوردها الكاتب في “بارباروسا” إضافة إلى تلك المسميات الجغرافية والمجتمعية من مدن وأماكن إلا دليل على موسوعية الكاتب المعرفية.. ونذكر من تلك الأسماء: يعقوب.. ايزابلا..سليمان.. ورد الربيع.. روكسيلانا.. فريناندو. سليم.. شارل.. خير الدين.. عروج.. جومانا..اسحاق.. أندريا دوريا.. نور..أرماندا.. إلياس.. بلانكو.. مصطفى.. البرتو.. محمد..حسن.. جميلة.. حبيبة.. سيهلة.. زياد.. طرغد.. أيدن.. ماريا..دون مارتن. ساندرا.. كليمنت.. جوانا.. فيليب.. ماتن لوثر…. إلخ، تلك شخصيات الرواية التي ازدحمت بها أحداثها .. وان كان خير الدين بعد رحيل أخوته إلياس وعروج وإسحاق برز كشخصية قادت أبرز الأحداث .. وظل يلونها حتى نهاية الرواية … حين ارتفعت بأعماله من مجرد قرصان إلى والي صاحب يد طولى في غرب وجنوب البحر المتوسط للدولة العثمانية.. يسوم الإسبان آيات العذاب. وإن كانت أعظم أعماله إنقاذ مئات الآلاف من المورسكيين من الموت والتعذيب والمطاردة بعد نقلهم إلى جزيرة ميدلي وجربة.. ثم الجزائر وجزيرة جيجل.
ونذكر بداية الرواية بذكر خروج عروج وإخوته إسحاق وإلياس وخير الدين بسفينتين من جزيرة ميدلي.. لتنتهي الرواية وقد أصبح تحت يدي خير الدين مئات السفن وعشرات الورش.. وأمتد نفوذه ليشمل عدة جزر ومسافة طويلة من سواحل البحر المتوسط الجنوبية.
إذاً، هي رواية مأساة المورسكيين.. رواية بشاعة محاكم التفتيش.. وكلاء الدين وحماة الكاثوليكية. فهل التاريخ يعيد نفسه.. ونحن نعيش انتشار التطرف الذي يهدد المجتمعات الإنسانية. باسم الدين تدق الأعناق وتدمر المدن والآثار..
تجاوزت أوروبا ومجتمعات شتى ذلك القبح بعد تضحيات قرون من التغيير.. النحت للبحث عن جوهر الدين حتى تحول من تسلط إلى أخلاق وتعامل.. وإن ظل ساسة واستخبارات تلك المجتمعات تنشئ وتدعم منظمات متطرفة إرهابية لتنفيذ مآربها وحماية مصالحها بإخضاع شعوب الأرض واستنزافها. فهل ما يدور من عنف وإرهاب يبشر بحقبة جديدة؟ وهل سيختفي وكلاء الرب من وجه البسيطة وتسود المجتمعات الإنسانية القوانين والأنظمة المدنية .
هذا ما توحي به الرواية وهي تؤسطر الماضي لتشير إلى جرائم اليوم التي تشارك فيها المجتمعات المتطورة بالتنظيم والدعم لتنفيذ حروبها القذرة.
بلانكو أحد الشخصيات المحورية في الرواية يتهم بالكفر .. يهرب من التنكيل والموت.. بعد أن فشل في الوصول إلى عفو الكرسي البابوي. ابنته ماريا تضيع منه.. ليجدها بعد سنوات في إحدى الأديرة تعذب وتغتصب من قبل كهنة حتى تفقد عقلها. أقبية عشرات الأديرة تتحول إلى منشآت تعذيب وقتل.. وأي تعذيب هرس عظام المتهمين أحياء.. وضغط الأجساد على الخوازيق لتعبرها حتى الرأس.. بتر الأطراف والأثداء بكلاليب . وكل ما يمكن أن يتصوره الكائن من بشاعات أستخدمها الرهبان ضد سكان إيبيرا من اليهود والمسلمين ممن يتهمون بأنهم يخفون دينهم.
بارباروسا.. يذكرنا بأخلاق صعاليك العرب.. وارسين لوبين.. وغيرها من تلك النماذج البشرية ممن كانت تنظر إليهم مجتمعاتهم بالمروق واللصوصية.. وينظر إليهم من قبل المضطهدين والفقراء كمنقذين أصحاب أخلاق إنسانية.
بداية الأمر خاض الريس عروج وإخوته عدة معارك بحرية .. وغامروا لإنقاذ ونقل عشرات الآلاف من المورسكيين إلى شمال إفريقيا في زمن إيزابلا وفنادو.. وبعد مقتل الثلاثة إلياس عروج واسحاق.. واصل خير الدين معاركه بعد تولي شارل الخامس ملك إسبانيا لتتحول تلك المعارك إلى ثأر يقتص بها خير الدين من قتلة أخوته .. وكانت قوته البحرية قد تعاظمت بعد تواصله بالاستانة.. حيث دعمه العثمانيون بالجنود والسفن والمدافع.. لتدور معارك بحرية هزم فيها أسطول الأرمادا الذي أشتهر بانه لا يقهر.. ثم يستعين شارل الخامس بالعصبة المقدسة لتتجمع أساطيل هولندا وايطاليا والمانيا وإسبانيا ضد بارباروسا.. لكنه يخرج بأقل الخسائر. وظلت شوكته قوية مهلبة.
كانت الحروب تدور باسم فشارل حامي الكاثوليكية والدولة العثمانية إمبراطورية رب المسلمين.. وفرسان القديس يوحنا أدوات الكنيسة.. في الوقت الذي أمتد نفوذ السلطان العثماني إلى قلب أوروبا. كان برباروسا هو يدها على شمال البحر المتوسط وغربه.
ويعود إنشاء محاكم التفتيش بداية بايزابلا ” التي تعهدت ويدها على الكتاب المقدس قبل أن تعتلي العرش أن تكرس حياتها لسحق الكفرة وحماية الكثلكة” وبذلك تم تتويجها ملكة مهمتها تطهير الأرض من غير الكاثوليكيين. لتحرق كلما يخالف الكاثوليكية من كتب ووثائق” ثمانون ألف كتاب شاملة كل نسخ كتب الهرطقة لم يستثن منها إلا ثلاثمائة كتاب في العلوم.. وآلاف من الكتب التي تغضب الرب تم حرقها” وعلى البحر فرسان القديس يوحنا يجوبون الأبيض المتوسط باسم الرب.. يقتلون ويحرقون وينهبون ويأسرون إرضاء للسماء من يصادفونه من غير ملتهم.
“لو رأيتِ عيون الصبايا في الأندلس.. لو رأيت الجثث تغرق أمام عينيك أملا في الفرار من بطش القشتاليين ..لو ذقت طعم السجن والتعذيب.. ورأيت أبناءك يباعون كالعبيد لحملت معنا” جزءاً من حديث خير الدين إلى زوجته “حبيبة” وهي تحاول أن تثنيه عن ركوب البحر.. ذلك الحديث يصور لنا مقدار بشاعة ما كانت تقوم به الكنيسة من ملاحقة لمَ يظنوا بأنه طريق إرضاء الرب.
“حفيدي العزيز سيصلك خطابي هذا بعد رحيلي عن هذا العالم, أوصيك بحماية الكاثوليكية , واختيار المحققين ذوي الضمائر الذين يخشون الله كما يجب , عليك باستئصال شأفة المورسكيين من شبه جزيرة ايبيرا , لا تتردد في حرق اليهود,فهم قوم يسبون النصرانية ويمارسون الربا والسحر, كما أوصيك أن يدفن جثماني بجوار جدتك ايزابلا.
جدك الملك فريناندو”
هذا ما جاء في إحدى الصفحات الأخيرة من الرواية.. يوصي الملك حفيده شار الخامس بمواصلة ما بدأة وايزابلا من تطهير الأرض.
” – بم سنحلم؟
– سنحلم بالأندلس.
– لم يعد في يد الزمن -على الأرجح- أي شيء.
***
خلف مكتبة يغمس الريشة في المحبرة, مدونا…‘‘تلك وصية خير الدين بن يعقوب بن يوسف. ثمانمائة عبد من العبيد للسلطان سليمان القانوني, مائتا عبد للسطر الأعظم رستم باشا, ثلاثون ألف ليرة ذهبية لبناء جامع وقبر في بشكتاش باستانبول. عشرة آلاف ليرة لابن أخي مصطفى بن إسحاق. ألف جارية وألف عبد وسرايا في استانبول لولدي حسن و…و…‘‘
هذه آخر كلمات خير الدين بارباروسا وهو يوصي بتوزيع أمواله.. ما يدلل على ما امتلكه من مال وجواري وعبيد وثراء عجيب.. يوزعها متجها بوجهه إلى الاستانة.
ويتبقى ذكر بعض الملاحظات قبل أن أختم مقاربتي هذه.
ظل الروائي يسير بأحداث الرواية في خط تصاعدي وقليلا ما كان يرجع إلى ماضي شخصياته.. وكأننا نسير وسط ضباب حكائي مشوق.. يمس ملامح الحكاية برقة لغة مترابطة.. ولا يغوص عميقا.. وكذلك تعامله مع شخصياته على كثرتها. مس سطحي شفيف. محلقا في زمن متماه يقدره المتلقي.. إذ أننا نعرف من كتب التاريخ دور إيزابلا وفرناندو في التنكيل .. لكنه الكاتب قدم لنا حفيدها شارل الخامس بروعة كشخصية لا تقل أهمية من ملوك اسبانيا من حماة الدين.
استخدم الكاتب تقنية الانتقال السريع من حدث إلى آخر في أكثر من مكان دون مقدمات.. ما أعطى السرد خفة وليونة وقبولاً لدى القارئ. مثل أن ينتقل من حالة تعيشها الشخصيات إلى ذاكرة أحدهم تسافر في ماضي أيامه ليعود دون إبطاء. في لقطات تنير للقارئ بحبكات سردية متداخلة .
تركيب الجمل بمفردات منتقاة بدا واضحا.. ما أعطى تلك الجمل بريقاً شاعرياً وقد غمرتنا بصور رائعة.. وبذلك أعاد لنا الأحداث التاريخية في قالب سردي شيق ومدهش. وكأننا نشاهد فيلما بكل تفاصيل مشاهده .
جل شخصيات الرواية شخصيات إيجابية.. فخير الدين وأخوته وزوجاتهم وجل معارفه مثاليون .. لم تظهر أي شخصية من الشخصيات كشخصية مركبة.. وكأن الكاتب أراد أن يتصفوا بالخير والصلاح وقد تخلصوا من نزعاتهم الإنسانية.
الموت سمة أساسية كما هو واقع الحياة البشرية.. ظل حاضرا .. بل وبسيطا يتسلل ليختطف من يشاء دون أن يحدث أثراً .. بداية من إخوة خير الدين إلى الملوك والسلاطين وقادة الحروب.. ما أعطى انطباعاً بأن الرواية ليست رواية الفرد بل رواية مجتمعات.. ومن شذ عن القاعدة فقط شخصية خير الدين كشخصية محورية .. ما أعطى للرواية معنى كبيراً.
رواية سينمائية بامتياز. نجح الكاتب بأن يضعها بجهد المثقف في مصاف الروايات الملحمية.