د. صادق القاضي
الفعل النقدي إبداعٌ موازٍ للفعل الفني. يفترض هذا أن يكون الخطاب عن الخطاب-وإن اختلفت الأدوات- بذات الدرجة من الاحترافية، كما يفترض أن يكون محيطاً بتاريخ العملية الإبداعية، ومبشراً أو على الأقل مواكباً لتحولاتها المستمرة.
والحاصل أن التمايز الماثل في السياق الإبداعي ماثل في السياق النقدي، وبشكل محبط كثيراً، خاصة في اليمن، حيث الانشغال بالإيديولوجيا والانطباعات بعيداً عن موضوعية البنى النصية وهموم وانعكاسات وفضاءات العمل الإبداعي..
في هذا المقام تمثل “مدارات أدبية” لمحمد ناجي أحمد، نموذجاً للندرة النقدية، حيث الممارسة النقدية المسئولة المتمكنة من موضوعها بشكل خاص، والمؤدية لوظيفتها الحيوية في خلق كينونة العملية الإبداعية وديناميكيتها وتطورها بشكل عام.
تضمن الكتاب عددا من القراءات النقدية لعدد من النصوص السردية اليمنية بين أعمال كاملة ونصوص قصصية أو روائية، بدءاً بـ “الدلالات الوطنية والاجتماعية في أعمال : زيد مطيع دماج” وفي هذه القراءة وكذلك في ” قراءة في نصوص مختارة من الأعمال الكاملة لمحمد عبد الولي: “، كان الحس التاريخي حاضرا بقوة سواء بما يتعلق بتاريخ السرد في اليمن، أو بتاريخ الموضوع السردي وهو نقد الحياة السياسية والاجتماعية.
المزاوجة بين الفن والسياسة تفرض نفسها هنا بشكل خاص، من واقعها الموضوعي في التاريخ اليمني والبيئة الاجتماعية الطافحة بالإحباطات والانتكاسات والقوى التقليدية والمظالم بقدر ثرائه بالأعمال الأدبية المنحازة للثورة وفق المرجعيات والأدوات والقيم الفنية والجمالية في مقاربة إشكالات وطموحات الواقع والتبشير بالمستقبل، والدفع بالحياة لأن تكون أفضل ..!
منذ مخاضه الحديث في اليمن، خاض السرد خضم الحياة العامة والسياسية وملاحم التغيير بنتاجات إبداعية تكشف عن تشبعها المبكر برياح التغيير، وتبنيهما لقضايا العصر، والمفهوم الحداثي للثورة كتحولات جذرية شاملة في قيم التفكير والتعبير والممارسة والتداول والعلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية .. الحاكمة، والثقافة المنتجة لها.
“مدارات أدبية” تضمّن أيضاً قراءات نقدية لعدد من الأعمال القصصية لمبدعين معاصرين، مشهورين أو شباب وشابات في أعمالهم الأولى، وتفضي عناوينها البارعة إلى قراءات متعددة المضامين والزوايا والأدوات المنهجية، وفي جميعها تمكن المؤلف بحسه التاريخي وثقافته الموسوعية، من إثراء قراءاته بالومضات الكاشفة والمقارنات وإعادة إنتاج المعنى، وجعلها عتبات عالية الكفاءة في ولوج النصوص السردية وتفكيكها، وإضاءة دهاليزها وأبعادها وجذورها ووشائجها التناصية.
..
أخيراً، صدر هذا الكتاب مطبوعا بحلة مميزة، عن دار نشر مميزة، هي “مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر”، القاهرة، ما يجعله في متناول القارئ على امتداد الوطن العربي.