تحقيق/ محمد ابراهيم- خديجة بورجي
قبل أيام اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي باحتفالات أبناء معظم حارات مدينة الحديدة بعودة الكهرباء بعد غياب دام أكثر من عام، تجرع خلاله السكان خصوصاً شريحة الفقراء منهم بالذات، أقسى مكابدات وآلام جحيم الحر، إلى الحد الذي جعل طلاب المدارس يدرسون بأجساد نصف عارية، وخبت الحركة الحياتية خلال ساعات الحر الشديدة، وتفاقمت أزمة الحصول على الثلج في الأسواق.. تحولت موجة الحَرّ الشديدة إلى فرصة تجارة أنهكت الطبقة المتوسطة والأدنى دخلا والأكثر فقرا لصالح قلة من النافذين والقادرين على توفير المشتقات لمولداتهم، ومن ثم البيع لجيرانهم بسعر قاتل..
في هذا التحقيق سنتتع مشاهدُ من فرحة ساكني الحارات التي عادت إليها الكهرباء.. وآمال الحارات المنتظرة على أحر من جمر الجحيم لعودة التيار إليها، مع قراءة الضرر الذي لحق ببنية الكهرباء، وكف تمت معالجته في الحديدة- أكثر المحافظات السواحلية اليمنية كثافة سكانية ومكانةً اقتصادية.. مستوضحين من الجهات المختصة مدى القدرات التي يمكنها أن توفر الكهرباء دون انقطاع.. لكن في البداية سنطل من النافذة التاريخية التي ذكرّنا بها هذا الفرح بعودة التيار الكهربائي..
لقد ابتهج سكان الحارات التي عاد إليها الضوء، مستفزين بذلك كل ما تبقى من مكامن الفرح في نفوس سكان الحارات التي تنتظر-على لهيبٍ من الجمر- لأن ترى طلائع الكهرباء.. ولأن مواقع التواصل الاجتماعي قد ربطت بإتقان كبير بين كل مدن اليمن وأريافها فقد سرى الفرح إلى كل أجزاء اليمن التي حرمها العدوان والحصار والصراعات الداخلية نعمة الكهرباء.. هذا الابتهاج ذكرني بأول فيلم سينمائي وثائقي سجل ملامح وتاريخ مدينة الحديدة، لأول مرة في التاريخ، واصفاً الحديدة بالأسطورية نظراً لما كانت عليه في العام 1929م، من نشاط تجاري في خاصرة البحر الأحمر، ومنتهى اتساعات التهايم.. وهو الفيلم الروسي الوثائقي، لأول بعثة سينمائية ناجحة إلى شبه الجزيرة العربية، حيث وصلت في صيف هذا العام ميناء الحديدة سفينة “ديكابريست” الضخمة العابرة للمحيطات قادمة من ميناء أوديسا (المدينة الأوكرانية على ساحل البحر الأسود).. وقامت البعثة المكونة من المخرج فلاديمير شنايديروف والمصور إيليا تولشان بتصوير أول فيلم وثائقي عن اليمن وهو من الأعمال النادرة للغاية.. ويحكي شنايدروف في ذكرياته عن الظروف الغريبة التي صاحبت تصوير هذا الفيلم.. كما يحكي كيف تمكنت البعثة من كسب رضا حاكم الحديدة ومنطقة تهامة الأمير سيف الإسلام محمد.. من خلال إنارة قصره بالكهرباء عل يد هذه البعثة.. أما قصة ذلك فهي الأهم في مسار عمل البعثة الروسية إذا كانت هذه الخدمة فاتحة لرضا حاكم الحديدة.. حيث يقول الفيلم المترجم بصوت أستاذ التاريخ العربي والإسلامي في موسكو الدكتور فيتالي نعومي: في الوقت الذي بات واضحا أن البعثة فشلت في مهمتها.. تلقت دعوة من حاكم الحديدة الأمير سيف الإسلام محمد، وتوجه الأمير إلى الروس بطلب مفاجئ.. إنارة قصره بالكهرباء.. رغم كل شيء بدأت المجموعة بالعمل متسلحة بكل ما لديها من معلومات عن الكهرباء، وباستخدام الموارد الممكنة والمستحيلة.. وقدم المساعدة جميع أهل القصر، بمن فيهم الأمير والأميرة والحريم.. وبعد بضعة أيام أضاءت المصابيح الكهربائية جميع غرف القصر الثمانية عشرة.. كان إعجاب الأمير لا حدود له.. وتدفق الأهالي على أسوار القصر ليروا هذه الأعجوبة… لقد جاء الروس بالكهرباء إلى الحديدة.. وعلى الفور وصلت رسالة ملك اليمن وكأنها مكافأة، وصرح لمجموعة التصوير الروسية، لأول مرة في التاريخ بالسفر والتصوير في جميع أراضي اليمن…..
كثافة سكانية
تعد محافظة الحديدة أكبر المحافظات السواحلية كثافة سكانية، حيث يبلغ سكان المحافظة وفقاً لنتائج التعداد العام للسكان والمساكن والمنشآت لعام 2004م (2157552) نسمة, يشكلون ما نسبته (11 %) من إجمالي سكان الجمهورية تقريباً, وينمو السكان سنويا بمعدل(3.25 %)، وتعد المركز الاقتصادي والتجاري والثاني بعد عدن.. لهذا فقد عاش سكانها أقسى المعاناة على إثر ما شهدته محافظة الحديدة كغيرها من محافظات الجمهورية من العدوان والحصار وغياب كلي للمشتقات وسُبِل الحياة الأخرى.. ولم تشهد مدينة الحديدة وسكانها هذه الأزمة الحارقة والخانقة منذ أن دخلت الكهرباء المدينة بصفة رسمية في عام 1950 من خلال مولدين صغيرين للكهرباء طاقة كل واحد منهما 150 كيلوات.. حيث سبب انقطاع الكهرباء عن المحافظة شلال كليا للحياة اليومية ولبيئة الأعمال وعانى اغلب سكانها خصوصاً اهل المدينة جحيم الحر وتبعاته من أمراض وأوبئة ولم يعد باستطاعة ابنائها تحمل حرارة الجو.. حيث ترتفع درجة الحرارة في الحديدة خلال الصيف إلى نحو 45 درجة مئوية، وتتراوح نسبة الرطوبة العالية بين 70 و85 مئوية..
هذا ما أشارت إليه الناشطة المدنية غدير طيرة -أحد سكان الحديدة المعايشين للمعاناة- مؤكدة أن أهل مدينة الحديدة أكثره معاناة عن أبناء المديريات، بسبب اختلاف المباني، ففي تلك المديريات يعيشون بداخل العشش، وأماكن مفتوحة تصلها النسمات الباردة، وان كان الجو حاراً.. أما المدينة فيعاني أبناؤها أكثر، وذلك بسبب منازلهم المبنية من البلك والطوب.. وكان اغلب سكانها يتنساون المشكلة الرئيسة في اليمن وهي الحرب! وجعلوا اهتماماتهم فقط كيفية تزويد منازلهم بالتيار الكهربائي فقاموا بشراء المولدات التي تشتغل بالمشتقات النفطية (ديزل_ بترول ) او الطاقة البديلة (المنظومة الشمسية) لكي يتفادوا الحر القاتل للجسد والنفس البشري.. لافتةً إلى أن الفقير الذي لا يستطيع توفير ذلك، وصار لا حل له سوى أن يمكث هو وأبناؤه خارج منزله أو بقربه ويقومون بالنوم بأرصفة الشوارع، وانتشرت أكثر الأمراض الجلدية التي اصابت الابناء والآباء والأمهات وأصبح العائل التهامي الذي لا يملك في جوف منزله سوى قوت يومه يذهب لاقتراض، على أمل عودة الكهرباء التي لم تعد إلا بعد عام من المعاناة..
وقالت غدير طيرة: إن عودة الكهرباء كانت حلم بالنسبة لسكان المحافظة وذلك بسبب المعاناة وعودتها كان لها طعم آخر للجميع المناطق التي زودت بالتيار الكهربائي، عدا بعض المناطق التي تم تزويدها ولكن لم تعد لها التيار وذلك بسبب الإضرار التي واجهتها وذلك بسبب العبث والنهب الذي قام بها ضعفاء الأنفس، أما استقبال الأبناء لغاليتهم فكانت مليئة بالفرح والسعادة وان كانت عدد ساعاتها تشغيلها لا تكفي لنسيان الحر الفاتك بالمحافظة، والأمهات استقبلت الكهرباء بالزغاريد الجميلة التي لا تنسي.. لكن سؤالي للسلطة المحلية ومؤسسة الكهرباء كم ستمكث هذه العودة.. ؟
أجواء الفرح
عودت الكهرباء خلقت بعد كل المعاناة جوا فرائحي وكما لو أن الحياة بدت دورتها من جديد فالمواطن عدنان المحلة من حارة الحوك يقول: لقد أحسست بشعور لا يوصف، عندما عادت الكهرباء وكأن الحياة عادت من جديد، فترى الابتسامة على اهلك وجيرانك ملئت وجوههم وغمرت السعادة كل الأحبة.. وتوافقه في ذلك الطالبة إقبال أحمد مؤكدة أن عودة الكهرباء بعد مرور عامٍ من الغياب أعادت معها الفرحة للشعب اليمني، وغمرت الفرحة كل بيت، وتزينت الشوارع والبيوت والأسواق ..
وأضافت إقبال: فالكهرباء روح أي مدينة تعيش الطقس الحار كالحديدة، وهي مصدر حيويتها ونشاطها وبهائها.. فبسبب انطفاء الكهرباء قلت الزيارات والحفلات بسبب الحر الشديد وخاصة في المناطق الشديدة الحرارة
وتقول نرمين إبراهيم – حارة الميناء-: لم نتخيل في يوم أننا سنفتقدها كثيرا ولم نعطي لها أهمية عندما كانت في حياتنا.. رغم أن كل شيء نفعله له علاقة بوجودها وفائدتها وخيرها.. لقد عشنا وضعاً لا نحسد عليه عندما غابت طويلاً حتى كاد المواطن يدخل مربع اليأس.. وها هي رجعت لتعم الفرحة في كل مكان، وتعالى أصوات الزغاريد، واتسعت فرحة الأطفال وذهابهم إلى نوادي اللعب لطالما كانوا بانتظار تلك الفرصة وها قد سنحت لهم وجاءت.. وذلك يوم الجمعة في الخامس من رمضان، دامت لنا عمرا مديداً..
مخاوف تعقيدات الأزمة
رغم مخاوف المواطنين الكبيرة بعدم استمرارها غائبهم الأكثر نفعاً في حياتهم اليومية (الكهرباء) بسبب الوضع السياسي والاقتصادي المعقدين في البلد.. إلا أن لحظة عودته ستسجل في أنصع سطور ذكرياتهم الجميلة في حياتهم وفي تاريخ هذه الأزمة التي عاشتها اليمن، هذا ما أوضحته “ندى مؤمن”- ربة بيت- مضيفة على ذلك: عند رجوع الكهرباء بعد عام من الغياب، صرخ الناس في الشوارع والمنازل بأعلى أصواتهم، وترددت في الأحياء صيحات الأطفال وزغردت النساء من أعماق قلوبهن، ورقص الشباب وأشعلوا الأجواء بالألعاب النارية ليعبروا عن شدة فرحهم وسعادتهم بعودة رجوع التيار الكهربائي، لا أدري أفرحا برجوع التيار أم كنا قد فقدنا الأمل برجوعه وكان هذا خارقا للعقل والمنطق..
وأبدا المواطنون مخاوفهم من أن تكون عودة الكهرباء مؤقتة، بسبب التعقيدات التي تشهدها الأزمة اليمنية على المستوى الداخلي وعدم خروج مفاوضات الكويت إلى حسم نهائي.. فحسب المواطن على الجياش- من سكان حي غليل- يظل الخوف قائماً رغم موجة الفرح العارمة، فالمشتقات النفطية وكميات المازوت قد تتأثر في أي لحظة في حال اشتد الحصار من جديد واستمر الصراع بين اليمنيين..
الإفلاس القهري
أصحاب الأعمال والورش والمحلات كانوا أكثر تضررا أيضاً في مشاريعهم، وأفلس الكثير وكان ينتظر الآخرون لحظة الإفلاس بعدهم، فهذا إبراهيم حاتم –صاحب مواد غذائية في حارة الميناء-يؤكد أن عودة الكهرباء بعد عشرة أشهر ونصف من الانقطاع، أعادت للمواطن أمل الحياة، كما أعادت لأصحاب المحلات التجارية والمتوسطة أمل الاستمرار ووقتهم تداعيات الخسائر.. غير أن الأهم هو أن لا تستمر المشكلات وأن تتضافر جهود الجميع في توفير المشتقات الكافية.. لاستمرار الكهرباء..
أما المواطن إبراهيم حاتم فيقول: لعل الجميع يدرك مدى المعاناة التي يعاني منها الجميع من جراء الانقطاع في هذا الصيف الملتهب وفي شهر الصوم وكيف أن تسبب ذلك في عدد من الوفيات وعودة الكهرباء حدث هام ومرجو وجزى الله الكل خيراً من عملوا بكل جهد من اجل تخفيف المعاناة عن المناطق الحارة وقاطنيها.. ونأمل أن تطول ساعات النور أكثر وان يتم الحد من خروج المحطة المتكرر وان يعم الخير جميع الحارات خاصة التي لم تصلها الكهرباء بعد وان يتم إصلاح كل المحولات والكيبلات..
استمرار الجهود
وفي اتصالنا الهاتفي بمحافظ محافظة الحديدة- رئيس المجلس المحلي اللواء حسن أحمد هيج أن الجهود مستمرة مع الجهات المختصة لتوفير الكميات الكافية من المازوت والبنزين وبما يكفل استمرار الكهرباء وعدم تكرار كارثة انقطاعها الكلي.. وأن التحديات الكبيرة التي يتخوف منها الجميع هو انقطاع المشتقات، أما يتصل بشبكة الكهرباء فالجميع يعمل ليل نهار على إصلاح ما تعطل أثناء الانقطاع، وتعرض إمام للأضرار المباشرة من العدوان، أو تعرض للتلف أو السرقة خلال أشهر الأزمة العصيبة التي شهدت البلاد..
من جانبه أوضح المهندس عبدالرحمن حجر- نائب كهرباء الحديدة- في تصريح لـ «الثورة» أن 90-85 % من الشبكة في حواري المدينة الرئيسة قد عادت إلى وضعها الطبيعي والإنارة الدائمة، بعد التغلب على المشاكل الفنية المختلفة.. منبهاً المواطنين في بقية حارات المدينة، وفي المحافظة ايضاً بعمل الاحتياطات الكافية في منازلهم وفصل خطوط الطاقة الشمسية أو المولدات عن الخطوط الرئيسية للكهرباء، لتجنب أي مشاكل بعد إعادة التيار الكهربائي.. لافتاً إلى أن فرق العمل الفني اعتمدت طرق دقيقة تلافياً لحدوث أي أضرار، فمثلاً تمت إعادة الدوائر يتم على ضوئها تغذية المحولات حيث تم تهيئة دائرة الحالي ودائرة الكورنيش للتشغيل بعد متابعة الخطوط وتحديد مراكز الخلل فيها..
وأكد حجر أن عدم التزامن في إعادة التيار الكهربائي إلى جميع الحارات يرجع إلى مشاكل فنية بالمحولات، حيث تعرض أكثر من 37 محولاً للسرقة وتخريب متعمد في الكابلات، بحثاً عن النحاس وبيعه من قبل ضعاف النفوس، إضافة إلى تعرض 54 محولاً للتخريب، إما جراء العدوان أو جراء التلف الفني بسبب الانقطاع فترة طويلة.. مؤكداً أن أعمال الصيانة كلفت الكثير من المال والجهد، وأن على الجميع أن يحافظوا على ثروة الكهرباء وروح الحياة في مدينة الحديدة الجميلة..