أوله رحمة
إن الله خلق السموات والأرض بالحق، وطلب إلى الناس أن يبنوا حياتهم على الحق، فلا يقولون إلا حقا ولا يعملون إلا حقا.
وحيرة البشر وشقوتهم، ترجع إلى ذهولهم عن هذا الأصل الواضح، وإلى تسلط أكاذيب وأوهام على أنفسهم وأفكارهم، أبعدتهم عن الصراط المستقيم، وشردت بهم عن الحقائق التي لابد من التزامها.
ومن هنا كان الاستمساك بالصدق في كل شأن، وتحريه في كل قضية، والمصير إليه في كل حكم، دعاية ركينة في خلق المسلم، وصبغة ثابتة في سلوكه، وكذلك كان بناء المجتمع في الإسلام قائماً على محاربة الظنون، ونبذ الإشاعات، فإن الحقائق الراسخة وحدها هي التي يجب أن تظهر وتغلب، وأن تُعتمد في إقرار العلاقات المختلفة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث”. وقال: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة”.
وقد نعى القرآن على أقوام جريهم وراء الظنون التي ملأت عقولهم بالخرافات، وأفسدت حاضرهم ومستقبلهم بالأكاذيب فقال: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى). وقال: (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا). والإسلام لاحترامه الشديد للحق طارد الكاذبين، وشدد عليهم بالنكير.
والإسلام يوصى أن تُغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال، حتى يشبوا عليها، وقد ألفوها في أقوالهم وأحوالهم كلها. فعن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي يوما ورسول الله عليه الصلاة والسلام قاعداً في بيتنا، فقالت: تعال أعطك، فقال لها صلى الله عليه وسلم “ما أردت أن تُعطيه؟” قالت: أردتُ أن أعطيه تمرا فقال لها: “أما إنك لو لم تُعطه شيئا كُتبت عليك كذبة” !!.. فانظر كيف يُعلَّم الرسول الكريم الأمهات والآباء أن يُنشئوا أولادهم تنشئة يقدسون فيها الصدق، ويتنزهون عن الكذب، ولو أنه تجاوز عن هذه الأمور وحسبها من التوافه الهينة لخشي أن يكبر الأطفال، وهم يعتبرون الكذب ذنباً صغيراً وهو عند الله عظيم.
والمشاهد أن الناس يطلقون العنان لأخيلتهم في تلفيق الأضاحيك، ولا يُحسون حرجاً في إدارة أحاديث مفتراة على ألسنة خصومهم أو أصدقائهم ليتندروا بها أو يسخروا منهم وقد حرَّم الدين هذا المسلك تحريما تاماً، إذ الحق أن اللهو بالكذب، كثيرا ما ينتهي إلى أحزان وعداوات.
والصدق في الأقوال يتأدى بصاحبه إلى الصدق في الأعمال والصلاح في الأحوال، فإن حرص الإنسان على التزام الحق فيما ينبس به، يجعل ضياء الحق يسطع على قلبه وعلى فكره، ولذلك يقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).