لحظة يا زمن.. تقاطيع
محمد المساح
لم تتخلف السيجارة كثيراً عن من مرافقته “كأنها ملاكه الحارس”.
لم تفارقه على امتداد سنواته من المراهقة المبكرة وحتى المشيب.
نجحت معه في البكالوريا وتظاهرت معه في الجامعة، وحزنت معه عند ما غادره الأحباب والأصدقاء، وهربت معه من منطقة إلى منطقة أثناء الحروب، وخطفت معه عدة مرات وكتبت معه وقرأت معه وسقطت معه في الخيبات، وهاجرت معه ونجت معه عدة مرات وعادت معه.
لم تتخلف السيجارة كثيراً عن مرافقته، ولا هو تخلف عنها.. اثنان في الطريق الطويل وفي الطريق المجهول.
لم يكن يهون عليها أن تراه حزيناً أو أن تلمح ” أحياناً ” دمعة في عينيه.
وتتمنى لو تمسح دمعته أو تشربها أو تمتصها أو تكفكفها أو تلامسها.
حزنه يزيدها اشتعالا ويزيدها أحياناً أخرى ندما:
في الحالة الأولى تستنفر جميع نارها لتشاركه، وفي الحالة الثانية تغفو وحدها في المنفخة لكي تتجنب رؤيته حزيناً على أنها كانت في جميع الأحوال أقرب إلى عينيه من الدمعة، وأقرب إلى أصابعه من الهواء.
تعرف السيجارة ومن مجرد تحسسه العلبة بمزاجه.
فعندما يعدها واحدة واحدة تدرك أنه مفلس، وعندما كان يضعها أمامه على الطاولة ويتأملها بشرود قاسٍ تدرك أن شخصاً عزيزاً عليه فارقه أو ابتعد عنه.
وعندما كان يسحبها وعلى مهل ثم يطرق عقبها على طرف الطاولة أو ظاهر كفه، تتكهن بأنه متوتر أو قلق ولهذا كانت تستسلم سلسة أمامه وتنفخ دخانها بهبات خفيفة بطيئة.
وعندما كان يضعها بين شفتيه ويرفع الولاعة أو عود الثقاب ولا يشعلها، تعرف أن أموراً عويصة تدور في ذهنه، وعندما يشعلها ثم يطفئها قبل أن يكملها ثم يمعسها ليشعل سيجارة أخرى تلقى المصير ذاته.
كانت تدرك أنه مقبل على خطوة صعبة أو غير واثقة.
هي ربما ومن المرات النادرة لا تحب أن توضع في مثل هذه المواقف الحرجة ولهذا كانت تود لو تنطفئ قبل أن يشعلها أو تسقط من أصابعه قبل أن يرفعها بعنف إلى فمه.
” مقاطع من ديوان ” دفتر سيجارة ” للشاعر اللبناني بول شاوول”