اليمن ثم اليمن

عبدالرحمن مراد

مقالة


 - لا أجد تفسيرا لمثل ذلك العقوق الذي تلقاه اليمن الأرض والتاريخ والإنسان والحضارة من هذا الجيل من الأبناء الذين ترعرعوا على خيراتها وشربوا من غير مائها وتنفسوا من عليل هوائها
عبدالرحمن مراد –

مقالة

لا أجد تفسيرا لمثل ذلك العقوق الذي تلقاه اليمن الأرض والتاريخ والإنسان والحضارة من هذا الجيل من الأبناء الذين ترعرعوا على خيراتها وشربوا من غير مائها وتنفسوا من عليل هوائها ثم لما اشتدت سواعدهم صوبوا سهامهم نحو قلبها العامر بالحب والسلام والخير والعطاء الوفير ليجعلوا منه مضغة تلوكها أنياب الضغينة والحقد وأضراس التباعد والاغتراب وكان ناعق غرابهم على الإنجاد وقنن الجبال وأصوات بومهم على الأشجار والمآذن والقباب وتفيد حربهم على المنابر وفي المساجد والجوامع وتلطخت مصاحفهم بالدم المراق وهي الحكاية ذاتها التي بدأت من عند عثمان بن عفان رضي الله عنه وما تزال تشغل فتيلها في كل وقت وآن وحين.
لا أظن اليمن بكل تاريخها وعمقها الحضاري وتراكمها الثقافي تقبل الحال الذي وصل إليه أبناؤها من شلل تام في القدرات وانفصام “كامل في الهوية وتشظ مقيت في الكتل الاجتماعية والثقافية النوعية واغتراب ممل عن السياق الحضاري وتباغض وتنافر وفي منظومة القيم والمثل وغياب الخير والحق والمروءة الشهامة والنجدة إنها حالة لا نقول نادرة بل قد حدث بما يماثلها في دورات التاريخ المختلفة- دالة على توالي الانكسارات الحضارية والثقافية التي تتوالى منذ حادثة انهيار السد حتى هذه اللحظة وهي حالة النكوص التي لم يفق من صدمتها إنسان اليمن حتى لحظته الحضارية المعاصرة في هذا الزمن.
فمشكلة الإنسان في اليمن تكمن في الفراغ الحضاري والثقافي الذي يعيشه وهو فراغ يشتهي الامتلاء وقد سبق للأدباء والكتاب التعبير عنه والتحذير منه ولم يعرهم الساسة أذنا صاغية ولذلك نرى من يستغل ذلك الفراغ ليملأه بمشاريع مغتربة عن السياق الحضاري والنسق الثقافي وهي الآن في حالة صدام مع واقعها.. أي تلك المشاريع المغتربة عن الواقع اليمني- فالهيمنة للقوى الكبرى كانت دوافعها في الماضي اقتصادية وأدواتها عسكرية وفي الألفية الجديدة ما يزال الدافع هو نفسه وتغيرت الأدوات من عسكرية إلى اشتغال استخباراتي أمني الهيمنة في الألفية الجديدة تقوم على البناءات الثقافية وبحيث تضيق دائرة النزاعات لتكون مقتصرة على الأمة الواحدة بدل الأمم المختلفة وربما اقتصرت بين الجماعات المتمايزة ثقافيا فالتعددية الثقافية التي أتاحت للثقافات داخل المجتمعات حرية التعبير العلني عن هوياتها الثقافية وعن استحقاقاتها الثقافية والسياسية والدستورية والاجتماعية الأمر الذي أظهر جماعات علنية تجاهر بطقوس وبثقافات على تضاد مع بعض التصورات الذهنية لجماعات أخرى مما جعل دائرة الاختلاف والخلاف تظهر كتمايز نوعي واضح وحالات الصراع التي تحدث في بعض المجتمعات تفضي في النهاية إلى مفردات السلام والتعايش واحترام الاختلاف فالتعدد والتنوع الثقافي أصبح ظاهرة عصرية لا يمكن القفز على حقائقها الموضوعية بل يفترض التفاعل مع تلك الحقائق الجديدة في ظلال المفهوم الشامل للمواطنة وبحيث يمكن من خلال ذلك المفهوم الاشتغال على قيم الانتقال باعتباره يقدم إطارا قانونيا وثقافيا واجتماعيا للتعايش الإيجابي بين مواطنين يتنوعون ثقافيا فالمجتمع أصبح في حالة متغايرة عما كان عليها فالتنوع الثقافي فرض واقعا اجتماعيا جديدا وبناء المجتمعات وفق معطيات الانتقال والتنوع الجديد يتطلب وعيا وإدراكا ودراسات علمية بحيث يكون الاشتغال عليها مرتبطا بالحالات الانتقالية وتدعيما لضرورات التنوع والتعدد والتعايش والسلام من حيث الأخذ بمبدأ الموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن فبناء المجتمع وفق معطيات التعدد والتنوع الجديدة يتطلب جهدا مضاعفا من الجهات والمؤسسات والأفراد من أجل الوصول إلى قيم مشتركة تكون واضحة العلائق تعزيزا لقيم الانتماء إلى الوطن الواحد.
فالاشتغال على الهوية الوطنية الشاملة والهويات المحلية المجزأة من حيث التفكيك وإعادة البناء وتحديد نقاط الالتقاء مهمة المثقف الفرد والعضوي وهي بالأساسي مهمة المثقف الأكاديمي وتفاعل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية مع المعطيات الجديدة يتطلب أيضا رؤية جديدة وبناء جديدا في الهيكل التفاعلي مع المستجدات والمعطيات الجديدة.
وحين نصرخ في وجه هذا الواقع القائم الذي يذهب إلى عوامل التشظي وتعمل فيه آلة الثورة تفكيكا وتدميرا للبنى العامة في ظل غياب كامل وصمت مطبق من القراءة والنقد وشلل تام للقوى الثورية الحداثية التي تملك رؤية تفاعلية ورؤية بنائية وهو الأمر الذي يجعلنا نصرخ: اليمن ثم اليمن.
فالهدم القائم يتطلب قوة كبيرة وموازية للبناء ومثل ذلك لا يمكن أن يحدث دون الشعور بالإشكالية المستقبلية التي تواجه الي

قد يعجبك ايضا