إبحار السماوي في أعالي السرد
الغربي عمران
ذمار ولادة.. يمضي الإبداع في روح تكوينها الوجداني.. من أعماق الأمس يسافر نهرا من إبداع متجدد وبشكل متواصل ومدهش..وما يزيد إعجابنا بذمار كمجتمع خلاق تاريخيا أن غزال المقدشية والتي تفتح وردها في بيئة قبلية غاية في التعقيد.. كإيقونة عصية على النسيان .. هاهن حفيداتها يواصلن خطاها دون كلل.. من: أسماء المصري.. إلى حفصة مجلي.. وسلمى الخيواني.. إلى نجمة الأضرعي وأسماء عبد العزيز.. ومن نبيهة محضور إلى عفاف صلاح وغادة الخاوي الأشول والتام والمزيجي والحجي والرحبي… وهكذا تواصل في ذمار بساتين الإبداع إزهارها يوما بعد يوم لتتحول إلى ظاهرة.. أن تكون المبدعات أكثر من المبدعين بل ويتجاوز الأمر إلى معدلات تصل وبنسبة إلى تسعين في المائة..مقابل عشرة في المائة ذكور خاصة في مجال السرد.
هي ليست مقدمة ..بل تعبير عن إعجاب بمجتمع خلاق ومتطور بمعطيات حداثية مدنية.. ولما سبق ذكره تجد أن مشهد ذمار الإبداعي يختلف عن كافة المشاهد الثقافية في المدن اليمنية ..فهي من المدن الصغيرة.. لكنها تكاد تكون الأولى في ديناميكة ونشاط مشهدها الإبداعي.. وأترك للمتابع أن يقيم ذلك الاختلاف.. من الناحية الكمية والكيفية.. ومن ناحية ديمومة الأنشطة وتفاعل الجمهور.. بل ومن ناحية بروز أسماء إبداعية على مستوى الوطن.في التشكيل والسرد والشعر..الخ
واليوم نود الاحتفاء بإصدار ذماري جديد “إبحار” اضمامة قصصية هي باكورة الأديبة الشابة نبات السماوي الفائزة بجائزة رئيس الجمهورية في مجال القصة لعام 2013..والتي تجاوزت نصوصها الثلاثين نصا توزعت بين القصة القصيرة والأقصوصة والشذرة.
ولن نتعمق بالتحليل والاستبطان لمضامين تلك النصوص كوننا في موقف الاحتفاء بباكورة القاصة وكذلك بفوز إبحارها السردي بجائزة شبابية . إلا أننا سنسطر عدة ملاحظات أثارتني كقارئ لحظة القراءة.. وأبدأها بالعنوان كونه فتحة النص ونافذة روح العمل الإبداعي. وسيلاحظ القارئ الكريم أن جميع عناوين الإضمامة من مفردة واحدة.. عدا نص يتيم تكون عنوانه من مفردتين.. وآخر تميز بعنوان محذوف”……¿!”
وعند الوقوف على تلك العناوين نجد أن الكاتبة تمتلك موهبة اختيار العناوين متعددة الإيحاءات..مثل: اكتشاف.. عبور.. مكلف.. نظرات.. الشيخ.. لص.. لعنة.. مطاردة.. مجنون.. شرود.. كابوس.. انتظار.. طموح.. إبحار.. وقفة.. الخ تلك العناوين التي تثير التساؤل لإبهامها .. ما يدفع القارئ لقراءة النص واكتشافه.. والعنوان قد يأتي فخا لاصطياد قارئ محتمل.. وقد يأتي مباشرا..لكنه في كثير من النصوص المعبر عن مضمونها.
ملاحظة أخرى حول تلك الأفكار التي عالجتها الكاتبة في نصوصها ..منتقيتا إياها مما يعيشه مجتمعنا..وتقديمه في قالب وشكل سردي مكتمل.. فهذه الفكرة ألبستها شكل القصة مثل:عبور..اكتشاف..مكلف نظرات..الشيخ ..لص. وغيرها.. ونصوص أخرى لها خصائص الأقصوصة .. مثل: وقفة.. حب.. في سطور.. طموح.. إبحار.. عودة أنوثة.. انتحار.. خوف .. من سيرة الفراش.. وغيرها. وأخرى تنتمي إلى فن الشذرة.. مثل : حلم.. ليل.. شحاذ..حذر.. مفارقة.. وهكذا.. والشذرة هي امتداد للأقصوصة ..وكما هي الأقصوصة امتداد للقصة وكما هي القصة امتداد للرواية التي هي سماء الكل. وأعود للتعريف بالشذرة.. هي أقصر من الأقصوصة.. بها من السرد والشعر وبها الإدهاش. وفي هذه الأيام يكتبها الأدباء على تويتر وصفحات الفيسبوك.
ومن المعروف أن الذاتية في المواضيع المختارة دوما ما تبرز وبشكل مباشر عند جميع الكتاب الشباب.. إلا أننا نلاحظ هنا أن القاصة قد حاولت التغلب على ذلك وتقديم جل نصوصها بعيدة عن الذاتية لتعالج قضايا عامة.
ملاحظة ثالثة تلك البدايات.. التي تنبئ القاري عن قدرة الكاتب.. وجودة نصه من عدمه.. ومن الرائع أن نجد نصوصا بدأتها الكاتبة بجمل فعلية.. ما يقود إلى تطور الصراع بتنامي الحدث حتى نهاية النص.ومن تلك النصوص نختار:لص..ونص لعنة وإن لم يأت الفعل الدافع للأفعال المتنامية إلا بعد عدة جمل…
ملاحظة رابعة. تلك النهايات التي جاءت حبكتها بشكل جيد.. ومنها نهايات النصوص التالية: “شرود” حين اختتمت باحتفاظ الشخصية برماد الرسائل التي أحرقها في لحظة شرود .. ما يقود القارئ إلى تصور حياة مليئة بالعاطفة والمشاعر الجياشة ..وكأنها تمثل الشخص بذاته..أو كأن تلك الرسائل هي هو.
ومن المعروف أن أي عمل قصصي لا تأتي خاتمته مغيرة لما يتوقعه القارئ.. بمعنى دون مفارقة ..دون تضاد لما يتوقعه القارئ يكون عملا ضعيفا ..أو ناقصا.ومتى ما استطاع القارئ توقع مجرى أحداث النص وتخمين نهايته فان ذلك العمل لا يقترب من العمل الكامل.. إذ أنه فقد عنصر الإدهاش .. والإدهاش هو روح الإبداع .. وهنا نجد تلك النهايات المخاتلة.. والتي تأتي عكس توقعات القارئ.. ما ينبئ عن ميلاد كاتبة تجيد وتعي ما تخط ..وعليه فإن الإخلاص للإبداع والتفوق فيه لا يأتي إلا عن طريق القراءة وبشكل يومي ومستمر.