دم كبيرا أيها الوطن
جميل مفرح
مؤلم بل مؤلم جدا حين تتحول القيم والمثل العليا إلى مجرد بضاعة رخيصة أو عملة نبتاع بها حاجاتنا وغاياتنا.. مؤلم جدا حين تغدو الحقيقة مادة مطاوعة تتراوح حالاتها وهيأتها وصلابتها بتراوح ما نفتعله ونديره لحياتنا وأهوائنا من مسارات ضيقة وإرادات منكفئة على ذواتنا لا تتعداها!!
ومحزن بأشد من ذلك وبأقصى مما في التوقع أن ننجر وراء أحلام لا يجيدها ويؤمن بها ويبتهج لها إلا من ارتهنوا للخيانات وارتموا في أحضان المطامع الجشعة معتبرين إياها قضاء للحاجة وطرائق نجدة من واقع لم يكن سيئا لو لم نكن أسبابا لتجسده بهذا السوء.. واقع نشكو منه مع أننا نعرف حق المعرفة أننا أبرز مهندسي ما يتغشاه من سوء!!
نعم.. من يستطيع أن ينكر أن ما نعيشه من واقع اليوم قد صار مثلا يضرب به لشدة السوء وأصبح أمثولة شائعة في منحنيات وقياسات الانهيار الأخلاقي والقيمي وبلغ من الانفتاح والانعتاق وما ماثلهما من صفات كنا نحسبها عصرية وثورية وتغييرية مبالغ تمنحنا الفرادة .. ولكن ليست تلك الفرادة التي كانت يوما أو عهدا أو زمنا مطمحا ارتقائيا كريما بل هي فرادة في أقصى الفيد من ذلك.. فرادة وصلت بنا إلى أن نرضي بارتكاب كل سيئات الوجود لنثبت لأنفسنا بأننا أدركنا وبلغنا أبعد ما يكون من السوء فيما لسان حلنا الكاذب يلهج بادعاءات البراءة وأخلاق الملائكة وصفات الأوفياء والعصاميين وذوي الرفعة في ولاءاتنا ومجمل أطروحاتنا..
نعترف وعلينا أن نعترف أننا لم نصر البشر الذي كنا نريد أن نصير ولم نعد حتى بقايا البشر تلك التي انطلقنا منها صوب مشاريعنا.. مشاريع الأحلام التي ما إن فقأنا أولى نتاجاتها حتى اكتشفنا لم كنا بلا غايات نزيهة!!
وكم غدا لفظ النزاهة غريبا على لغتنا بعد أن غربته تصرفاتنا وثوراتنا الزائفة المنتقمة على ما تبقى بداخلنا من مواطن شرف ورفعة واعتزاز ومآثر وفاء وولاء في مقدمتها الوفاء والولاء للوطن.. ذلك الوطن الذي نثخن جراحه صباح مساء لنثبت لسوانا مدى انتمائنا إليه ولا نهاية حبنا له الذي نحث التراب في عينيه بدعوى تطهيره فيما نؤمن في قرارة أنفسنا أن فناءنا أو على الأقل تركه وشأنه أقرب وأصدق معالم معاني الطهر في حقه!!
نعتقد كثيرا أن فصلا أو فصلين من مسرحيات الاعتذار كالتي أخط حروفها الآن كفيلة بأن تطبب جراحات هذا الوطن الذي نسومه سوء العصيان وإن اعترافا موجزا له بالخطايا من قبلنا وبمعجز الفضل منه كاف لأن تعود دفقات في مجاري مياهه العذبة بينما الحقيقة تقول أننا مادمنا واستمرينا في عصيانه وخذلانه بهذا الشكل الذي لا شكل له فلن نكون سوى مخلفات سوائل ذات روائح نتنة قد تقبلنا مجاريره وقد تسد في وجوهنا فوهاتها وتصاريفها!!
عموما.. أيها الوطن أعلم أنك الآن تتربع أمامنا شابكا يديك في بعضهما وابتسامتك رغم الجراح المثخنة والأعباء المتراكم تشي بانتظارك المعتاد لاعتذاراتنا الأكثر من معتادة .. اعتذاراتنا التي كنا قد حكناها وسبكناها واتقنا تنميقها وتوشيتها قبل البدء حتى في التدرب على خيانتك وقبل تلميع نضالنا بدمائك الزكية.. أعرف جيدا أنك تسترجع كل ذلك في مشاهد ونحن نقف مكسوري الظهور أمامك لنؤدي أدوارنا المعتادة كخونة مهرجين في ثياب فضفاضة وطويلة جدا منسوجة من الوفاء والولاء والصدق أرى ضحكتك الساخرة وأنت تتأمل كيف أن قزمنا وبشاعتنا لم يستطيعا أن يأخذا من جمال ذلك الملبس غير اللائق بنا حتى ومضة من بريق وإن بريق زائف نقيم به أودنا وتستطيع ما به من طاقة أن تعيننا على الوقوف أمام محاكمتك الساخرة منا ولو لثوان معدودة محدودة!!
أيها الوطن مهلا بات الاعتذار لك مجرد إسقاط واجب نعرف ذلك ولكن حين نتلفت ونتلفت ونجهد في البحث عن وسائل التخاطب معك كمؤمنين بمدى عقوقنا نعيا ونكل ونمل ثم نعود ليس بأيدينا إلا أن نمتطي الاعتذار ونظل نكرره لك .. ونعلم أنك من الكبر والقداسة ما يعطينا الثقة بأنك أكثر وأصدق وأبلغ وأكرم من يتقبل اعتذارات بنية كيفما كانوا وأيا كانت خطاياهم.. فدم أيها الكبير كبيرا وسنظل كما عهدتنا أولئك الصغار الصغار.