»المقهى المكسيكي« و رواية القاع المغربي
محمد الغربي عمران
“من يراني لأول مرة, قبل أن يتمعن جيدا في هيئتي , يعتقد – بحكم بشرة وجهي الضامر وصلابة جذع هيكلي العظمي- أني مازلت شابا صغيرا يافعا وأنا الذي قوست ظهري وحدبته هذه العربة اللعينة”
الأسطر الأولى من رواية تذهب بنا إلى قاع المجتمع.. لنعايش شخصيات الهامش ..لأوضاع إنسانية أقل ما يقال عنها مطحونة وعيا.. اقتصادا اجتماعيا.. قدم لنا الكاتب من خلال تلك الجمل عدة صور متتالية تبين لنا وضع شخصية الراوي.. ككائن كادح بضمور هيكله وقصر قامته ليظهر عكس عمره.وهكذا الكثيرين لا تعرف لهم عمرا إلا إذا اقتربت منه.. وهنا يقربنا الكاتب إلى ذلك الكائن ومجتمعه ومحيطه وبيئته لنتعرف إلى تلك الشريحة من المجتمع وقد أبيح كل شيء فيها ليصورهم كضحايا لا كجلادين.
تلك الأسطر ليست بداية حكايته المشوقة.. ففي الصفحة العاشرة تسترجع ذاكرته بداية طفولته” اعتقدت بادئ الأمر أنها هي فعلا أمي وحسن السمين -كما يلقبه أبناء الحارة- أخي بيد انه مع توالي الأحداث الغريبة والمدهشة التي حصلت لي في مسار حياتي وسوء الطالع الذي لازمني طيلة طفولتي والفضول الذي اعتراني والأسئلة القلقة التي استوطنتني- كل هذا جعلني اكتشف بعد فوات الأوان, بمساعدة بعض الجيران- ومن خلال بعض المناسبات التي وخزتني كالسهام في أعماقي .. أن حسن فعلا هو أخي , لكن من اعتقدت أنها أمي لم تكن هي دادا زهوة إلا زوجة أبي” من هنا يبدأ الراوي قصة حياته..ليجد نفسه طفلا يعيش بين أفراد يتهامسون عن موت أمه ..ليتساءل هل ماتت بشكل طبيعي.. هو لا يعرفها.. حتى أبيه لا يراه إلا نادرا إما غاضبا أو مشوشا.
الراوي لا يستقر على نسق حكائي معين .. وهذا أسلوب يشوق المتلقي للغوص في تفاصيل تلك الحياة.. الكاتب يجيد الألاعيب السردية وتوظيف فنيات العودة بالذاكرة أو المضي قدما ..كما يجيد زرع إيحاءاته بأن ما نقرأه حياة حقيقية لأشخاص من لحم ودم وليس محض خيال.. وهنا يصبح العمل جزء من وجدان المتلقي ..يتفاعل مع شخصياته وتلك الأحداث التي تتسارع . وأنها ليست حكاية متخيلة.. كفيح أصاب بهذه التقنية ليقربنا كقراء من ذلك الفضاء البائس.. من طفولة محرومة. صور لعملية ختان الصبي.. وتلك القسوة المصاحبة من الحجام.. تصرفات الأب حين يقدم له حذاء مستعملا أكبر من مقاس قدميه وتارة أصغر .. ليهرب الصبي بعدها ويبتعد رغم محاولة أمه دادا زهوة التي لم تلده. لكن ذاكرته لم تتوقف عن استدعاء الماضي.. فمع تصاعد الأحداث زمنيا تعود بنا ذاكرت الراوي بين فينة وأخرى ليحكي ذكرياته مع فقيه المسيد الشاذ إلى مشاهد اللعب بالذباب واصطيادها بمخاط الأنف.. ليسوح بنا الكاتب في ذكريات طفولته المليئة بالقسوة والحرمان والضياع.. إلى تلك التفرقة في معاملته من أمه التي لم تلده عن أخويه حسن وعمر .. وأساليبها التبريرية في إقناعه بأنها لا تفرق بينهما.. إلى كرهه للأعياد التي تأتي ليرى الجميع لابسا للجديد إلا هو..الذي يختفي عن الأنظار حتى لا يراه أحد وهو بالملابس التي بليت منذ حين . ليكتب إلى (….) رسالة يطالبه بأن يبعث بملابس العيد حتى يخرج ليشارك الأطفال فرحته وليغيض من يغيضونه بملابسهم الجديدة.
أخذت مرحلة الطفولة مساحة مناسبة من صفحات الرواية التي تجاوزت المائة والخمسون صفحة .. كما هي مرحلة الصبا والشباب التي استحوذت على بقية المساحة .. وإن ظل الراوي يعود إلى ماضي الأيام ليحكي ما صادف أثناء هروبه من أوجاع وما امتهن من مهن: مساعد طحان ماسح أحذية .. نادلا ومساعد طباخ سائس حمير بائع ماء ثم عاملا في فندق من الطراز القديم ينزل فيه بائعو السكر والشاي بدوابهم وسلعهم لأيام ثم يمضون ” على الواجهة كتبت بخط مهترئ يكاد لا يرى خطه الرديء (مقهى الشعب) لكنهم لقبوها بمقهى المكسيك ”
بهكذا كلمات يقرب لنا الراوي مسألة ذلك المقهى الذي ليس مقهى بالمقاييس التي نعرفها ..فهو يحدثنا عن مبنى كبير يأتيه نزلاء كثر . فاردا صفحات كثيرة ليجول بنا في تلك الأحياء القديمة ومنها حارة “بو عماير” وذلك المجتمع الصاخب ليلا الراكد نهارا.
وهكذا استقر الراوي بعد أن امتهن عدة أعمال بسيطة ليعمل تحت أمرة صاحب الفندق أو المقهى” الشيبة العاصية” وزوجته”العايدية” بدون أجر يذكر فقط مقابل المبيت ولقمة يسد بها رمقه.
يصور لنا المبنى القديم “مقهى المكسيك” وقد تجمع إليه الهاربين والعاطلين “استأنست بالعمل في المقهى وألفت حياة الفوضى بين رواده… فذلك المبنى القديم كان مأوى من لا مأوى له: الحشاشين..والسكارى والمشردين والمقامرين والسماسرة ولاعبي الثلاث ورقات والحمقى والمعتوهين والجواسيس والغرباء ومروجي الشائعات … والشواذ…”
يستعرض لنا أمه العايدية –هي أيضا ليست من ولدته- وما كانت تحكي له أثناء مرافقته لها إلى ضريح الولي وإلى القرية حيث تستقر ابنتها الخالدة ..التي فرت بعد حكاية مشبوهة مع زوج أمها ” الشيبة العاصية” وما كان قد سرد لها من أحلامه وحكاياته. أثناء تنقلهم بين