شروط قيام الثورة بين معذبي الأرض والإنسان ذي البعد الواحد
د. أحمد حمود المخلافي

سبق التوصل في الحلقة الأولى إلى أن الشرط الضروري لتجاوز الواقع التكنولوجي الراهن هو تحقيق هذا الواقع واكتمال جبروته وأن العقلانية الجديدة.. أي عقلانية الإنسان المتحرر من شتى أشكال السيطرة لن تبرز إلى الوجود إلا من خلال تحقيق المشروع التكنولوجي واكتمال صيرورته.. وبعبارة أدق إن الإنسان لن يتحرر من التكنولوجيا إلا بواسطة التكنولوجيا وعن طريق تحرير التكنولوجيا.
إذ لا مفر في العصر الحاضر من إعادة تحديد إمكانيات الإنسان والطبيعة تبعا للوسائل التقنية الجديدة التي تتيح لها أن تتحقق.
إن ما كان يضفي على الإنسان والطبيعة قيمتهما في عالم محدود التنظيم والقدرة على التكيف والتلاعب كان هو العالم الذي توجد بداخله (نواة) غير قابلة للحل تقاوم الاندماج. أما في المجتمع الصناعي البالغ ذروة تطوره فإن العقلانية التكنولوجية تقضي تدريجيا على تلك النواة. ولا جدال في أن العالم عندما يتحول ماديا وفكريا تتحول معه أيضا رموزه وصوره وأفكاره. وبالتالي تفقد طابعها كواقع مختلف نوعيا لا مجال فيها للتناقض الواضح.
ومادام التناقض هو عمل عقلي (مواجهة عقلانية بين ما هو غير كائن مع ما هو كائن) فلابد أن تكون له وسيلة تجعله قابلا للإيصال.. والطليعة تناضل لإيجاد هذه الوسيلة أو هي بالأحرى تناضل حتى لا يمتص العالم الأحادي البعد تلك الوسيلة وتحاول أن تخلق انفصالا أو بعدا قادرا على أن يجعل حقيقة هذه الوسيلة قابلة للإيصال من جديد في سياق الرفض.
إن كل الجرائم والمظالم المرتكبة بحق الإنسانية تسوى اليوم وتبرر من قبل بيروقراطية وتنظيم عقلانيين ولكن مركزهما الحيوي مع ذلك غير منظور. إن الوحدة – ذلك الشرط الذي يشد من آزر الفرد في مواجهة المجتمع- قد باتت مستحيلة تقنيا.
إنه كما نرى عالم عقلاني يسد منافذ الهرب كلها بحكم ثقل جهازه وإمكانياته ومثل هذا الرفض لا يمكن قطع الطريق عليه إلا بواسطة تعويض يبدو أبعث على الرضى من الرفض نفسه. وبفضل تلبية مادية تدريجية تحقق قهر المعارضين وتوحيدهم ومعه تتحول الثقافة الرفيعة إلى ثقافة شعبية تؤدي إلى الانصياع.
كما أن خطر الإبادة- هذا الذي اختلقه الإنسان بنفسه والذي بمقدوره أن يتجنبه ويتلافاه- بات يشكل جزءا لا يتجزأ من عدة الإنسان اليومية (العقلية والمادية) وأصبح ينفي أي حجة لدحض النظام أو توجيه أصابع الاتهام إليه فأصبح (خطر الإبادة) من عوامل توثيق ارتباط الرافضين بالنظام ما لم يلوح لهم بتهديد غير مباشر مضمونه: هناك ارتباط سياسي واقتصادي بين عدو مطلق وبين مستوى مرتفع من الحياة وهذه حقيقة واقعية وعقلانية بما فيه الكفاية للإقرار بها وتقبلها وبالتالي الرضوخ والاستسلام للنظام.
وإذا كانت غريزة التدمير مركبا مهما من مركبات الطاقة التي تفسح المجال أمام السيطرة التقنية على الإنسان والطبيعة فإن المجتمع في الوقت الذي تتعاظم فيه قدرته على التلاعب بالتقدم التقني يصبح أعظم قدرة على التلاعب بهذه الغريزة وعلى مراقبتها والتحكم بها أي على اعطائها شكلا (إنتاجيا).
من هنا فإن الخطر الخارجي خطر الحرب بالذات لا يعود يلقى معارضة بل إنه يحظى علاوة على ذلك بتأييد غرائز الضحايا (المحتملين) وهذا بحد ذاته مظهرا من مظاهر الانصياع المراقب بإحكام.
إذن فالانصياع المؤسس هو مظهر من سيطرة المجتمع الأحادي البعد على التجاوز والتعالي. فهذا المجتمع يميل في ميدان السياسة والثقافة الرفيعة إلى تضييق الخناق على المعارضة بل إلى امتصاصها بل إن تأثيره وفعاليته يتجاوزان ذلك إلى ميدان الغرائز. وعلى هذا فإن الأجهزة العقلية الكفيلة بالتقاط التناقضات وبإيجاد الحلول تتعرض إلى الهزال والضمور. إن الضمير السعيد يكاد يكون هو وحده المهيمن في هذا العالم الذي ليس له من بعد غير العقلانية التكنولوجية.
إن الضمير السعيد يأوي ويحمي الاعتقاد بأن الواقعي عقلاني وبأن النظام القائم يوزع في خاتمة المطاف الخيرات. وشيئا فشيئا يرى الأفراد في جهاز الإنتاج عامل الفكر الأساسي الذي يستطيع فكرهم الشخصي وعملهم الشخصي أيضا ويتوجب عليهما أن ينصاعا له. وأثناء هذا التحويل يلعب الجهاز الإنتاجي أيضا دور عامل أخلاقي. وهكذا يسلم الضمير زمام أمره للتشيؤ لإكراه الأشياء الكوني.
وليس هناك مجال للشعور بالذنب والإثم في هذا الموقف. إذ أن في مقدور رجل واحد أن يعطي الإشارة التي ستبيد المئات والألاف من الناس ثم يعلن أن ضميره لا يؤنبه البتة بل بمقدوره أن يعيش سعيدا.
الحقيقة هي أن العقلانية التكنولوجية تقف هنا من جديد خارج السياسة وفيما وراءها ومن جديد تقف موقفا زائفا غير أصيل لأنها تخدم في كلتا الحالتين سياسة الهيمنة والسيطرة.
إن الضمير السعيد هو خير مثال على الامتثالية الجديدة والتي بدورها تعبر عن السلوك