اليوم .. وأيام زمان
يكتبها/ علي أحمد بارجاء
بسبب من التراكم العلمي والثقافي والأخلاقي والحضاري, فإنه كان ينبغي أن نكون اليوم أكثر تطورا ورقيا وأفضل حالا في كل جوانب حياتنا من السنوات الماضية والعهود السابقة. ولكن حينما يكون حاضرنا الذي نعيشه أسوأ, وأننا نتقهقر إلى الوراء, فإن ذلك مخالف للسنة الطبيعية للتطور, بحيث نشعر أن الأجيال السابقة كانت تعيش أفضل حالا منا. ولذا لا نستغرب أن نشيد بأيام زمان, ونكثر الحنين إليها, بل نتمنى أن تعود إلينا, وهذا ليس بدعا منا, بل هي خلاصة خبرة صاغها السابقون أنفسهم حين قالوا في أمثالهم: (لا جاعت ذكرت نفستها) لأن المرأة في أيام نفاسها تكون محل رعاية واهتمام, ويقدم لها من صنوف الأطعمة والأطيبة, ما يجعل لتلك الأيام ذكرى لا سبيل إلى نسيانها, فهل حقا أيام زمان أفضل من اليوم¿
ـ أيام زمان كان الرجل لا يقاتل خصمه إلا مبارزة, ووجها لوجه لأن ذلك من أخلاق الفروسية, وشيم الرجولة, واليوم يقتل الرجل غدرا وغيلة, وهكذا انتصر الجبناء على الشجعان!
ــ أيام زمان كان الناس لا يدفعون فلسا واحدا مقابل رسوم النظافة, ولكنهم يعيشون في بيئة نظيفة, فلا يرون القمامات ولا مياه الصرف الصحي في الشوارع والطرقات, واليوم يدفع المواطن تلك الرسوم ولكنه يرى القمامات والمياه القذرة للصرف الصحي تحاصره في كل مكان!
ــ أيام زمان كانوا يخوöفون الأطفال الصغار بالعسكري إذا رأوا منهم سلوكا سيئا, واليوم إذا ما فعلنا ذلك معهم ضحكوا كأنما سمعوا نكتة من النكات.
ــ أيام زمان إذا رأى الطالب معلمه يسير في الشارع سارع ليحيöيه, أو اختفى عن عينيه حتى لا يراه احتراما له, واليوم يضرب الطلاب معلمهم, أو يشهرون السلاح في وجهه حتى داخل حرم المدرسة, كما حدث قبل أيام في إحدى مدارس مدينة شبام حضرموت.
ــ أيام زمان كانت المساجد لله لأنها بيوته على الأرض, فلا تسمع فيها إلا الصلاة وتلاوة القرآن والوعظ والإرشاد, والدعوة إلى الله, ودراسة العلوم الشرعية, والتسبيح والتهليل والاستغفار, واليوم أصبحت المساجد أماكن وحواضن للاختلافات والصراعات, وأصبح لكل فئة أو جماعة مساجدها, وكل فئة تتخذها للتحريض على غيرها, وتفعل وتقول فيها ما تشاء, فنشروا الاختلافات والعداوات بين الناس.
ــ أيام زمان كان للموظف لدى الدولة وظيفته وحسب, وكان يعيش براتبه منها عöيشة كريمة راضية, واليوم وقد ارتفعت الأسعار, وكثرت حاجات الناس, وأصبح راتبه لا يكفيه, أصبح للموظف عمل آخر يكسب منه أكثر ليستعين بذلك على العيش, فقل اهتمامه بوظيفته الأساس, وضعف إخلاصه لها, ولم يعد يبذل جهدا من أجلها, فساء أداؤه وانعدم أثره, ودليلنا ما نراه من ترد في كل الخدمات.
ــ أيام زمان كان القاضي يجلس في محكمته فلا يجد من يأتي إليه ليشكو أو يختصم. ويروى أن قاضيا في مدينة شبام حضرموت لم يدخل إليه خصمان خلال سنتين كاملتين حتى مل وشكا إلى السلطان أن ينقله إلى محكمة يؤمها الخصوم, ليفصل بينهم فيحل له مرتبه الشهري المستحق. واليوم يزدحم المتخاصمون على أبواب المحاكم, ويقضون مدة طويلة قبل أن يفصل في قضاياهم, ومن قديم ما يروى أن أحدهم في مدينة سيئون باع لآخر جملا, وتبين للمشتري أن الجمل كان مريضا, فاعترض المشتري من يومه القاضي وهو في طريقه إلى المسجد لأداء صلاة المغرب, فشكا إليه قصته, فأخبره القاضي أن يأتيه يوم الغد إلى المحكمة لأنه لا ينظر في الشكاوى إلا فيها, وكان الجمل قد نفق في الليل, فعندما ذهب إليه المشتري ليبلغه بنفوق الجمل, دفع القاضي إليه قيمته من جيبه لأنه كان سببا, فلم ينظر في شكواه ساعتئذ.
هذا غيض من فيض بين ما كان أيام زمان وبين ما يحدث اليوم, والزمن هو الزمن, والأيام هي الأيام, لم تتغير, ولكن الذين تغيروا هم الناس أنفسهم, وقد قال الشاعر المحضار: (ما هو من الوقت, ما هو زين, لكن أهل الوقت ما هم زيان), وقال قبله الشاعر العربي: (نعöيب زماننا والعيب فينا). نحن الذين تغيرنا إلى الأسوأ, ساءت أخلاقنا, ماتت ضمائرنا, قل إخلاصنا, انعدم وفاؤنا, ملأ أنفسنا الطمع والجشع, أصبح كل منا يجري وراء مصلحته الخاصة, ولم نعد نرعى مصالح الوطن والناس, وحدöث في مثل هذا ولا حرج, فكيف يصلح أمرنا, ويستقيم حالنا, وربنا جل في علاه لا يغيöر ما بقوم حتى يغيöروا ما بأنفسهم.