الـقــــــبلية .. مفاجأتـــــنا المحــــزنة
عـــبدالله عــلي صـبري

ونحن نتطلع إلى بناء دولة مدنية حديثة يسودها النظام والقانون في ظل احتكار الدولة للقوة واستخدام العنف المشروع تبقى البنية القبلية للمجتمع اليمني على رأس عوائق بناء الدولة وتحديث المجتمع خاصة أن النظام السابق اعتمد على المشيخة القبلية بشكل كبير وعمد من خلال مراكز القوى الجديدة إلى تمييع القيم الأصيلة للقبيلة وأبنائها واستثمر حالة العصبية القبلية العمياء لتدعيم السلطة الحاكمة على حساب البناء المؤسسي للدولة.
ولما اندلعت الثورة الشعبية في 11 فبراير 2011م تسابق أبناء ومشايخ القبائل إلى الساحات الثورية متطلعين مع غيرهم من الثوار إلى التغيير والانتقال إلى دولة مدنية ضامنة لحقوق جميع اليمنيين وكان تخلي أبناء القبائل عن السلاح واندفاعهم إلى الساحات بشكل سلمي علامة فارقة في مشهد الثورة اليمنية وهو ما يعني أن القيم القبلية الأصيلة يمكن استثمارها إيجابيا.
بيد أن المشهد اتخذ مسارا آخر ليدمغنا بالمفاجأة المحزنة فما إن انقسم الجيش حول الثورة حتى عمد الطرف المنضم إلى الثورة إلى تحشيد القبائل وتسليحهم وتحريضهم ضد ما كان يسمى بالحرس العائلي مع أن الجيش برمته وفرقته كان عائليا بامتياز!
وهكذا وبالموازاة مع الساحات الثورية السلمية تشكلت حالة مسلحة باسم حماية الثورة والثوار ما خلق تشويشا أربك المراقبون ومتابعو المشهد اليمني عن بعد. ولم يتوقف تسليح الثورة على الحصبة وأرحب والمناطق القبلية المحيطة بالعاصمة صنعاء بل امتد أيضا إلى محافظة تعز في وسط البلاد.
ثم إن العقلية الوضيعة التي ابتكرت قطع الطرقات وضرب أبراج الكهرباء وتفجير أنابيب النفط إنما كانت تستند إلى سواعد القبائل وإغراء مشايخها بنصيب من كعكة الثورة أو “الثورة المضادة”. وقد هيمن التأزيم على مجريات الحياة اليمنية حتى اللحظة ولم تتمكن حكومة التسوية من وضع حد للأزمة المتصلة بتخريب خطوط الكهرباء وأنابيب النفط خشية اندلاع حرب بين الجيش الذي لا يزال يخضع لإعادة هيكلة تبدو طويلة المدي وبين أبناء القبائل في مناطق التخريب والذين وإن كانوا يعبرون عن استهجانهم لهذه الأعمال إلا أن مشايخهم يتربصون بانتظار فرصة يترزقون منها وإن على حساب أبنائهم وأخوانهم!
القبلية انتعشت من جديد أيضا من خلال الحركة الحوثية التي باتت تستند إلى ما يعرف بالزيدية القبلية حيث غدا أبناء القبائل الذخيرة التي تعتمد عليها الحركة في حروبها الأخيرة والتي وإن كانت وضعت حدا للنفوذ المشيخي في قبيلة حاشد إلا أنها أذكت العصبية القبلية بتشكيل تحالف قبلي يعتمد على وجاهات مشيخية من قبيلة بكيل التي ترى أنها ظلت مقصية من الحكم في ظل النظام السابق ذي الهوية الحاشدية.
ومعروف أن أئمة الدولة الزيدية اعتمدوا في حكمهم على قوة قبيلتي حاشد وبكيل وهو ما يعني أن إحياء الأحلاف القبلية يشكل خطرا بالفعل على مدنية الدولة المنشودة والذين استخدموا القبلية من قبل يعرفون أن القبيلة في الأخير تفرض شروطها وثقافتها ثم سرعان ما تتسيد الحكم عندما تواتيها الفرصة المناسبة.
واليوم ثمة من يحذر من تكرار نموذج (سنحان) القبلي في ظل النظام السابق بتمكين قبيلة (أبين) في ظل العهد الجديد خاصة أن قرارات رئاسية في إطار إعادة هيكلة الجيش تدعم هذه المخاوف.
على أن خطورة التعصب القبلي لا تقتصر على مناطق بعينها فمنذ أشهر اندلعت الهبة الحضرمية وبعد أن كانت حضرموت وأبناؤها نموذجا للمدنية والمسالمة انتفض المارد القبلي من داخلها ليعلن عن غضبة شعبية اتكأت على السلاح وسواعد القبيلة الحضرمية في رسالة إلى مركز قوى النفوذ القبلي بصنعاء مفادها ” ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا”!
الانحراف الذي يطرأ بين الحين والآخر على الحراك الجنوبي يمكن قراءته من زاوية استثمار التعصب القبلي المسلح الذي يكاد يغطي على عدالة القضية الجنوبية وسلمية الحراك الشعبي. ومع أن ثمة اصطفافا وطنيا حول عدالة القضية الجنوبية إلا أن التعصب أفضى إلى موجة عنف تستهدف من وما هو شمالي ولاشك أن العنف الذي يتأسس على الهوية ( شمالي/ جنوبي ) يغدو عقبة مضافة على طريق بناء الدولة المدنية.
حتى تنظيم القاعدة فإن عملياته الإرهابية يجري التخطيط لها من المناطق القبلية حيث تتواجد الحماية لعناصر التنظيم الذين تمكنوا من حشد الأنصار والموالين لهم في هذه المناطق مستغلين العاطفة الدينية والعصبية المحاربة لدى أبناء القبائل.
الأنكى أن ثمة أصواتا دأبت على تملق القبلية من منطلق أن للقبيلة اليمنية تاريخا عريقا وأن اليمنيين في النهاية جميعهم أبناء قبائل وأن الدولة لا يمكن أن تقوم بمعزل عن القبيلة. وهذا كلام لا غبار عليه لولا أن أصحابه وهم يعترفون بالتاريخ وبالواقع المعاش لا يقدمون تصورا لإمكانية المزاوجة بين القبلية والمدنية