ثرثرة تقود إلى صورة
جمال حسن

جمال حسن –
ذات يوم تحدثت شخصية فرنسية في اليمن حول خلق تشريعات دستورية تعطي القيادات القبلية والدينية امتيازات. المضحك أن تلك القوى تمتلك امتيازات خارج هذا الغطاء القانوني تشكلها الأعراف والأنساق الاجتماعية القائمة خارج حضور الدولة. فتاريخ اليمن هو حاصل من السيطرة العسكرية تعتمد بصورة كبيرة على تحالفات قبلية. وهي تحالفات غير دائمة متقلبة وتفتح شهية الخصوم إلى الانقضاض متحينة الفرص.
تلك الاحلاف تمنح الزعامات نفوذا على حساب الحاكم. وهذا الأخير إما يعيش مكبلا بنهمها أو يسرف كثيرا من جهده في تنمية الصراعات في ما بينها. تبرز اليوم تعقيدات وتفسخ متراكم منذ قرون. اليمن لم تعرف مفهوم الدولة بمعناها الحقيقي إلا مع الاحتلال العثماني. أما هي فكانت ناشئة عن مفهوم سيطرة عسكرية لا أكثر كلما ضعف حكم المركز تضمحل وتعيد إنتاج دويلات متحاربة. تشكلت هالة النجاشي في الحبشة كإمبراطور على مدى قرون فأعطت للسلطة نفوذا مطلقا لدى الشعب الاثيوبي وعلى العكس استلقت الهويات القبلية في اليمن تتفوق على حضور الوطن الواحد. حتى الإمامة الزيدية بهالتها الدينية لم تحسم الأمر إذ انها كمفهوم سياسي تقوم على مبدأ الخروج وضعت تحالف القبيلة بالإمامة في معمعة الركض الدائم في فلوات التقاتل والنزاع مع ظهور إمام يدعو لنفسه.
هذا الإسراف الهش في التقوقع ضمن الزعامات القبلية يظهر في التاريخ. قام الملك الحميري يوسف اسار “ذو نواس” بشن حملات لتطهير الساحل اليمني من الوجود الحبشي بعد طردهم من عاصمة الدولة ظفار. تعرض جيشه لضربة قاصمة بعد انسحاب الزعامات (الأقيال) وقتل مهزوما فأنتج اليمني أسطورة انتحاره غرقا. إذ لم يكن معروفا هذا النزوع لدى اليمنيين ان ينتحر القادة بدلا عن تقبل الهزيمة. لم تكن الرواقية الرومانية حاضرة في الوعي.
ارادت ثورة سبتمبر تشكيل هوية وطنية حديثة فكان ضمن اهدافها تأسيس جيش وطني. في حصار السبعين استبسل مقاتلون من كل انحاء اليمن بعضهم جاءوا من الجنوب مثل عمر الجاوي البعض قاتل ضمن ايمانه منتسبا لشعارات سياسية نضالية حديثة او كيمني غيور والبعض قاتل تحت زعامات قبلية آمنت بالثورة. يقول زميلي علوي السقاف أنه تم محاصرة ثورة سبتمبر في ميدان التحرير بصنعاء من القوى التقليدية واستدل بالمعمار الذي استلقى على شارع علي عبدالمغني بواجهاته الاسمنتية ونوافذه العريضة المطعم ببلكونات على الطريقة المصرية.
أرادت قوى المشائخ بالتحالف مع طبقة سنسميها رجعية أن تتوقف الثورة إلى الحد الذي بموجبه ترث امتيازات الطبقة السائدة في عهد الأئمة أو تتقاسمها مع المؤسسة الحاكمة. إنه الجرح الذي خطف الهوية اليمنية وعرضها لهزلية الحضور الزائف للقانون.
التقى عبدالعزيز الثعالبي في مدينة إب بنساء وسألنه ما إن كان العثمانيون سيعودون لإنقاذهم من جور الإمام. كانت اليمن تسير نحو الانقسام المريع وأعادت ثورة سبتمبر في الشمال وثورة أكتوبر في الجنوب الاعتبار للدولة الوطنية ثم بدأ التململ من ممارسات أنظمة الحكم المتوالية. واليوم نعيش لحظات مريعة من تحفيز الانقسامات الطائفية والمناطقية.
قد يكون المجتمع الدولي لا يريد انهيارا كليا لليمن لكنه أيضا لا يمتلك أن يعطينا حلولا سحرية إذ أن مصلحة الأقوى في وجود كيانات سياسية ضعيفة لدول الهامش. فوجود اليمن يقاس بنزوع تلك القوى لما يعزز مكاسبها. وإن كان تدخله العسكري المباشر مكلفا مقارنة بدعم الدولة الهشة فإن أي سقوط سيختلق سيناريو يحاول تأمين المناطق الاستراتيجية على الساحل ودعم النزاعات في الجبال والهضاب الداخلية. وإن تحدثنا عن انه لن يسمح لفوضى في اليمن والصومال في نفس الوقت يمكن اليوم إعادة ترتيب الاستقرار في الصومال فيما ستخوض اليمن تلك التجربة المريرة بكل عنفها.
ما يثير الخوف هو نشوء اليمني المحصور في رؤية ضيقة. تقوقعه على حساب اليمن الكبير في النزعات الصغيرة. حتى تلك الطائفية أو المناطقية أو القبلية هي ذريعة لأهواء الشخص الفاعل. ينشأ اليمني على وجوده الجزئي المضمحل في وجود كيان هش للدولة ووعي مفتون بالتخندق العصبي. فكلما زاد التبطل في المجتمع غرق أكثر في العصبية. وما تقوم به السياسة اليوم هو حضور متطفل على كل أشكال البناء التعليمي والاقتصادي. إذ اننا نحوز هذا القدر العجيب من الحماقة والتردي في الخصومات. بل إن السياسة تشجع على تبطل المجتمع. فشباب يدرسون الطب أو الهندسة بدلا من ان يكونوا مهنيين ناجحين سيحتاجهم البلد يذهبون نحو الانتهازية السياسية. لان التبطل السياسي يمنح الكسلين فرصا سريعة قد لا تمنحها المثابرة على التفوق. فأمثلة سياسية تجعلنا نرى المقابل الرخيص لحضورهم على الواجهة. في واحدة من الهزليات يطل ابله وهو يفرد أوراقا نقدية بيديه ووراءه صورة العمامة وي