اختراع العزلة

بعد ثلاثين سنة من الكتابة والإبداع و”اختراع العزلة” كما جاء في عنوان أحد أعماله يلقي بول اوستير نظرة من موقع ابن الستين من العمر على مسيرة حياته. وهذه السيرة الذاتية هي في المقام الأول نظرة تأملية على مسألة هروب الزمن ووعي ذلك عندما يتقدم الإنسان في العمر. وبالطبع تخص “وقائع الشتاء” كما جاء في العنوان قصة فتى أميركي اسمه بول اوستير.
الحادث الأكبر الذي يحتفظ به بول اوستير من طفولته هو ذلك الموت المبكر لأبيه والذي ظل بمثابة صفحة صعبة لم تبارح مخيلته طيلة حياته. يضاف إلى ذلك الألم الذي عاشه بسبب المصير المتعثر الذي عرفته أمه.
ما يبوح المؤلف فيه أنه حاول في بداية مسيرته في عالم الكتابة أن يسيطر على الحزن الذي كان يعيشه في داخله. وبالتالي أن يثبت مكانته ككاتب في عالم الأدب والإبداع. ولا يتردد في الاعتراف بكثير من مشاغبات الشباب وجنونه. وكذلك الاعتراف بما يمكن أن يمثله قدوم الشيخوخة من خوف ورعب داخلي. بل ويرى أن مسيرة الإنسان كل إنسان محكومة بمحدودية جسده.
إن “وقائع الشتاء” كما جاء في عنوان الكتاب هي بالدرجة الأول وقائع الجسد بالنسبة للروائي ذي الشهرة العالمية بول اوستير وهو يكتب في المقام الأول عن تاريخ جسده. وعما عاشه من “أحاسيس عذبة وأحاسيس مؤلمة”.
ومن خلال الحديث عن الجسد والموت. يتحدث اوستير عن الزمن و”الدور في الزمن” من حالة إلى حالة. وفي هذا المعنى أيضا ينتقل مما هو شخصي إلى العام. ومن خلال “وقائع شخصية” يتوجه بالحديث إلى أولئك الذين يقرؤون سيرة حياته ويجعلها بمعنى ما سيرتهم.
ويرى في هذا السياق أن “الكتابة تبدأ في الجسد إنها موسيقى الجسد”. مثلها في ذلك مثل الفرح والحزن وكل المشاعر الأخرى.
يتطرق اوستير إلى وقائع وأحداث وأشخاص تدور في محورها حول أبيه وأمه وأسرته. لكنه يتحدث أكثر وأكثر عن المشاعر التي عرفها في حياته منذ سنوات الطفولة حتى عمر البلوغ ثم النضج ووصولا إلى النهاية الطبيعية المتمثلة في الشيخوخة. وفي هذا المعنى أيضا يتحدث عن “ربيع طفولته” .
وما عرفه من “أزهار جميلة تجلب الكثير من الإحساس بالفرح”. وتلك العصافير التي كانت توجد فجأة ذات صباح في فناء الدار. إنها مجموعة من الأشياء الصغيرة التي “تعيش فينا” منذ الطفولة. وتعرف كما يقول كيف تقاوم النسيان. إذ “تختزنها الذاكرة” حتى النهاية.
يحكي اوستير بكثير من التأمل عن “السير في الطبيعة” أي رياضة المشي التي كان يمارسها بمتعة كبيرة. ويدرج كلمة عابرة عن المدرسة العمومية التي كان يذهب إليها كل صباح فـ”كل الذين كانوا يعيشون في الحي استطاعوا التردد إليها مجانا”. ويتعرف القارئ خلال مسيرة المؤلف منذ الطفولة إلى الشيخوخة على الكثير من التفاصيل عما كان يفضله من الطعام عندما كان صغيرا. وكذا على جميع الأمكنة التي عاش أو مر فيها وعلى أولئك الذين أثاروا إعجابه.
ولا ينسى اوستير أن يذكر قارئه أنه يمارس دائما كتابة أعماله الأدبية على “آلة كاتبة يدوية”. وأنه فخور بمكتبته الصغيرة في منزله. ويصف نفسه “الذات الوحيدة الشخص الوحيد .. رجل صامت مقطوع عن بقية العالم”. وهو يوم بعد يجلس خلف مكتبه ولا هدف له سوى التنقيب عما يختلج في أعماقه. وهذا يذكره كما يقول بمبدعي الماضي الكبار من أمثال: جيمس جويس وموليير.
إن “وقائع الشتاء” عمل تأملي شخصي حول الجسد والزمن والذاكرة يقدمه أحد أشهر الكتاب المعاصرين.
 المؤلف في سطور
 بول اوستير كاتب أميركي. بدأ نشاطه الأدبي كمترجم للشعر الفرنسي. قرض الشعر أولا ثم تحول إلى الرواية. كما انه أخرج أفلاما سينمائية عديدة. من مؤلفاته: اختراع العزلة فن الجوع.
 الكتاب: وقائع الشتاء – تأليف: بول اوستير – الناشر: هنري هولت- نيويورك 2012 – الصفحات: 240 صفحة – القطع : المتوسط

قد يعجبك ايضا