فائضون عن الحاجة!
جميل مفرح
كما تمر وتتداول موضات الأزياء والإكسسوارات تتفشى موضات أخرى في الثقافات الحية وأكثر تلك الثقافات تأثرا وقابلية لانتشار حمى الموضات والتقليد هي الثقافة العربية التي تعودت منذ قرون طويلة على أن تكون متلقيا ومستقبلا, مستهلكا للمنتج القادم من الأقاصي بعد انتظار وتلهف.. ومما يروج سوقه في الثقافة العربية في الوقت الحالي المسميات والمصطلحات المتجاوزة للحدود واللغات أو تلك التي يفرض التلهف لها تجاوزها وعبورها حدود الجغرافيا والثقافة واللغة.
ولعل من أبرز الألفاظ إذا ما توقفنا عن اللفظ وحسب كلمة الديمقراطية التي راجت كلفظة مجردة من معانيها الحقيقية الدالة وجوهرها التطبيقي الفعلي فغدت موضة التناول السياسي في منطقتنا حد شيوعها في مفارقات وتضادات باعثة على الاندهاش والاستغراب كأن تجدها رائجة في بلد متكلس منذ العصور الحجرية أو بلد نظام الحكم أنوي مطلق والإنسان فيه ما يزال يتعامل مع الحاكم كإله أو في أدنى تقدير كغرض أو تنزيل إلهي لا يجب بل لا يجوز حتى التحدث عنه إلا بقدسية ساحقة وتهذيب مطلق!! فأين من الممكن لمثل هذا النموذج الغالب بالطبع أن يكون نموذجا أو حقلا للمعاني الديمقراطية الحقة¿!
وإننا حين ندقق جيدا ونخضع آلية الفعل الديمقراطي للقراءة والتتبع والتركيز على مستوى البشرية عموما سنجد أنها أبعد ما تكون عن المثالية المحمودة حتى في أبرز المجتمعات التي آمنت بها واتخذتها أو ادعتها منذ وقت مبكر.. وأن الديمقراطية والحرية الحقة لا يمكن أن تطبق أو تتجسد بتلك المثالية في مجتمع معاصر اليوم مهما ادعينا أو أدعى المباهون بها وإن في تلك المجتمعات المتقدمة جدا ولنا في ذلك أمثلة كثيرة تواجهنا بها الحياة والحقيقة من يوم لآخر ومن حدث لآخر.. فالإمعان في تمثل الديمقراطية ليس كما يعتقد البعض يعني اطلاقية الحرية وكمال التطبيق في أي مجتمع مهما كان متقدما وحرا مثقفا ومرفها أيضا!!
أما حين تصبح هذه اللفظة أو بالأصح حين يصبح هذا المعنى التقدمي شعارا يزايد به بشر لم يحسب بعد أنهم أدركوا الحضارة الإنسانية الجديدة فهنا تحدث الكارثة المعنوية والحضارية ويغدو مثل هذا المعنى لعنة بدلا من كونه سمة تحضر أو دليل رقي فأي مجتمع للأمانة هنا في الشرق المسحوق بين شرق وغرب يطاولان الحضارة في أعاليها ويماشيان السرعة التي يسير بها العصر بل يتحكمان في سرعة واتجاهات الحضارة الجديدة¿!
أخيرا إن الحديث عن ديمقراطية في مجتمعات كمجتمعاتنا التي ما تزال تلهث بحثا عن بشريتها وعصريتها يشبه إلى حد ما ارتداء قيس العاشق وليلاه لأحدث صراعات سراويل الجينز والتقاؤهما في واحد من أشهر مطاعم البيتزا هت فأين نذهب بخيالاتنا المفرطة والمفرطة جدا في التفاؤل ونحن نتحدث عن تلك الموضات اللفظية والقيمية والفكرية التي تبعد عنا في الوقت الراهن بمسافات شاسعة ليس من الزمان والمكان وحسب وإنما مسافات من الفكر واليقين بماهية وجودنا وأثرنا في الحياة التي تمر من جوارنا دون حتى أدنى شعور بها¿!
هل بالفعل نريد أن نتحدث عن شيء مثل هذه القيم ونحن ما نزال لا نؤمن حتى بماهية وجودنا أو ندركه أو نعرف ما الذي نريد أن ننتجه وإن لم يكن كمادة فكفكر وثقافة أو على الأقل أن نستعيد ما أنتجه سالفونا ونعيد إنتاجه كمعرفة جديدة رافدة للجديد والمتقدم حتى نفرض أو نؤشر على الأقل أننا موجودن.. أما أن نتعامل مع الفكر والمعاني والمصطلحات السامية والراقية كما نتعامل مع سروال الجينز ووجبة البيتزا فمن الطبيعي أن نظل أولئك البدو المستهلكون الذين لا فائدة ترجى منا غير تغيير أرقام التعدادات بوجودنا.. أي أن نظل كما نحن أشياء فائضة عن الحاجة¿!