الخط العربي.. سمفونية الفن الجميل

هل يمكن اتهام الكمبيوتر بأنه سيقضى على فن الخط العربي ويجمده ويوقفه عند حدود معينة باعتبار أن الكمبيوتر يحتفظ بأشكال متنوعة من الخطوط يمكن استخدامها في أي وقت بسهولة ويسر دون اللجوء إلى الخطاط¿ أم أن الكمبيوتر يكون عاملا مساعدا في تطوير الخط العربي والارتقاء به إلى آفاق أعلى وتحريره من جمود القوالب والأشكال التقليدية¿ ربما حدث هذا أو ذاك لكن المؤكد أن فن الخط العربي لن يموت لأنه فن متميز ينطلق من حالات نفسية وشعورية عبر عنها الفنان العربي بدقة وإتقان.. ولذلك كتبت الحياة لهذا الفن ونما وازدهر في ظل الدولة الإسلامية.
والخط العربي ليس مجرد كلمات وعبارات وأشكال صماء جوفاء.. تكتب كيفما اتفق أو تعتمد على الجهد الذاتي للخطاط أو الاجتهاد الشخصي لكل صاحب خط جميل بل الأمر أكبر من ذلك بكثير.. ومن هنا رسخت أقدام هذا الفن بين الفنون التشكيلية الحديثة.. أو بالأحرى فإن هذه الفنون من رسم ونحت وغيرهما هي التي تسلقت كاهل الزخارف الخطية العربية الأصلية وانبثقت منها أو بسببها.. وأصبح الخطاط المبدع فنانا حقيقيا لا يقل عن غيره من الفنانين التشكيليين الذين نتحدث عنهم بانبهار ونقتني لوحاتهم باعتزاز.. لكن تلك الزخارف كان لها شأن كبير وأهمية خاصة في ظل الدين الاسلامي بسبب القرآن الكريم.. اذ أبدع الخطاطون في كتابة آياته على شكل زخارف فنية لتوضع داخل المساجد وقصور الخلفاء والأمراء ودواوين الدولة.. وكان ذلك هو البديل الطبيعي لتلك الصور التي توجد في الكنائس والمعابد.
ويروي أن سليمان بن وهب قد كتب كتابا “(رسالة) إلى ملك الروم في عهد الخليفة المعتمد العباسي.. فقال ملك الروم: ” ما رأيت شيئا أحسن من هذا الشكل.. وما أحسدهم على شيء حسدي لهم على جمال حروفهم”.. وملك الروم هذا لم يكن يقرأ العربية وإنما راقه خطها باعتداله وهندسته.
شهادات المستشرقين
وفي هذا الصدد يقول المؤرخ المستشرق الانجليزي ( أرنولد توبني ):” لقد أنطلق الخط العربي الذي كتب به القرآن غازيا ومعلما مع الجيوش الفاتحة إلى الممالك المجاورة البعيدة.. وأينما حل أباد خطوط الأمم المغلوبة.. إن هذا العالم الإسلامي الذي امتد من بلادنا ما وراء النهرين في تركستان شرقا.. إلى المغرب الأقصى بشمالي إفريقيا غربا قد أنجب عددا لا يحصى من أهل هذا الفن الخالدين الذين تركوا على صفحات العصور ما حافظ على الطابع الإسلامي في هذه الرقعة الفسيحة من المعمورة”.
إن الحرف العربي- بشهادة المؤرخين والمستشرقين- هو أجمل حروف لغات الدنيا! ثم هو – إلى جانب ذلك – حرف اختزالي وفي الاختزال وفر في الوقت والمساحة معا.. هذا¿ علاوة على ما لدى الحرف العربي من قابلية المد والمط والاستمداد والاستدارة والرجع.. بيما يكتب الحرف اللاتيني بتمامه.. فالكتابة العربية فيها حركات مثل الفتحة والضمة والكسرة والحركة – قطعا- أجزل من الحرف.. فلو أردنا- مثلا- أن نكتب كلملة (قلم) بالحرف اللاتيني فلا مفر عن استعمال ثمانية أو سبعة أحرف لاتينية بدلا من ثلاثة أحرف عربية..!
ونذكر- في هذا الصدد- أن المستشرق “ريتر” أستاذ اللغات الشرقية في جامعة استانبول وهو من الأساتذة المخضرمين الذين حاضروا في العهدين العثماني والكمالي قال: “إن الطلبة قبل الانقلاب الأخير في تركيا كانوا يكتبون ما أتلو عليهم بسرعة فائقة لأن الحرف العربي اختزالي بطبيعته.. أما اليوم. فإن الطلاب يكتبون بالحرف اللاتيني ولذلك فهم لا يفتأون يطلبون إلى أن أعيد عليهم العبارات مرارا.. إنهم معذورون- ولا شك- فيما يطلبون لأن الكتابة اللاتينية لا اختزال فيها فلا بد من كتابة الحروف بتمامها.. أما الكتابة العربية فهي أسهل كتابات العالم وأوضحها.. فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريقة جديدة لتسهيل السهل وتوضيح الواضح”.
سيمفونية خطية
إن العرب بشهادة المستشرقين وكبار الفنانين كانوا سادة التزيين الخطي دون منازع.. يقول ” جان جاك لوفيك” في كتابه” التصوير الزيتي الإسلامي والهندي”: “لقد كان الفنان العربي يملك – أكثر من فناني الاسم القديم- فن كتابة السيمفونية بالخطوط” لذلك.. كان من الطبيعي أن تتنوع إشكال الخط الكوفي لتزدان بها المصاحف والأفاريز التي زانت جدران المساجد.. فكان الخط الكوفي المربع الهندسي الشكل والخط الكوفي المورق ذو الزخارف النباتية والكوفي المجدول والكوفي المترابط المعقد..الخ وما يقال عن الخط الكوفي يمكن أن يقال عن خطوط الثلث والفارسي والديواني والطغراء.. وذلك في تنوع أشكالها المستخدمة في الكتابة التزيين في نفس الوقت.
إن الخطاط العبقري يرى في الحرف ما لا يراه الخطاط العادي إذ أنه يزاوج بين الحروف وأعضاء الجسم البشري.. فالألف في لوحاته هي قوام حسناء.. وقوس حرف العين هو تخطيط حاجب.. والنون هي ثدي ناهد