الاحساس بالسعادة

السعادة هدف يسعى إليه البشر. لكن ماذا تعني السعادة.. وبم تتعلق¿ هل هي مطبوعة في مورثاتنا ــ جيناتنا¿ وهل هي حالة مستدامة أم متتالية متقطعة من اللحظات السعيدة العابرة¿ وهل هي تعبير عن حالة ذاتية أم تتأتى من ظروف «موضوعية» خارجية¿
مثل هذه الأسئلة والعديد غيرها تجد إجاباتها عند الفيلسوف وعالم الاجتماع والكاتب الفرنسي فريدريك لونوا في كتابه الأخير الذي يحمل عنوان: «حول السعادة.. رحلة فلسفية».
تتوزع مواد الكتاب بين 21 فصلا «قصيرة» تدل عناوينها على محتوى العمل نفسه. وتبدأ بفصل «علينا أن نحب الحياة التي نعيشها».. وتنتهي بآخر عن «فرح الفيلسوف سبينوزا». وهناك فصول أخرى تحمل عناوين: في حديقة المتع إعطاء معنى للحياة السعادة ليست من هذا العالم هل يصنع المال السعادة¿ هل يمكن أن نكون سعداء دون الآخرين¿
يشير المؤلف إلى أن هناك رأيا شائعا أكده العديد من الباحثين مفاده أن قابلية الإحساس بالسعادة أو بالتعاسة إنما هي فطرية لدى البشر بنسبة 50 بالمائة إذ إنها ـ القابلية ـ تمثل حصيلة الجينات الموروثة والحساسية والمزاج. وأن 10 في المائة تعود للظروف الخارجية وللبلدان التي يعيش فيها المعنيون والحالة المادية للأسرة. أما نسبة الـ40 بالمائة المتبقية فتعود للخيارات الشخصية للمعنيين. وبالاعتماد على هذه المعطيات كلها يمكن الوصول إلى فهم أفضل للذات الإنسانية كسبيل نحو تحقيق قدر أكبر من السعادة كما يشرح المؤلف.
يحدد فريدريك لونوار ثلاثة معايير أو ثلاثة معطيات أساسية لا بد من توافرها للإحساس بقدر من السعادة. أولا هناك نوعية العلاقات الوجدانية والعاطفية التي يعيشها المعني في الوسط المحيط فيه ابتداء من الأسرة الصغيرة ووصولا إلى المجتمع الكبير. وثانيا: التفتح والازدهار في النشاط الحياتي والمهني الذي يرغبه المعني. وثالثا والأكثر أهمية: امتلاك صحة جيدة.
وفي جميع الحالات يرى المؤلف أن السعادة ترتبط بدرجة الوعي الذي يملكه الإنسان. فإذا كان هذا الوعي محدودا يميل المرء إلى إيجاد سعادته في الأشياء الأكثر بساطة والأكثر يومية والأكثر مادية والأكثر مباشرة. بالمقابل تتطلب درجة أعلى من الوعي للاهتمام بما يتجاوز ما هو مباشر وما هو مادي عابر مثل الاهتمام بمسائل تتعلق بالعدالة والقيم الروحانية والمبادئ الإنسانية.
ينقل المؤلف عن الفيلسوف الشهير سبينوزا ما مفاده أن الإنسان الحكيم الذي يعمل على تعــميق معارفه وتوسيع مداركه يبـــلغ درجة من الحرية تضعه في حالة من الغــبطة مختلفة وأكثر شمولا واستمرارا من الفرح العابر. ويشرح المؤلف على مدى الفصل الأخير من الكــتاب فلسفة سبينوزا حول السعادة.
إن المؤلف يردد بأشكال مختلفة مقولات كان يرددها الفيلسوف اليوناني القديم سقراط وغيره من أهل المعرفة مفادها أن «الجهل مصدر كل الشرور». المهمة الأكثر نبلا يحددها بمحاولة الدفع بكل السبل الممكنة نحو «معرفة الذات ومعرفة الآخرين ومعرفة العالم ومحاولة الانفتاح على أبعاد روحانية لا حدود لها». هذا هو «الثمن» لبلوغ السلام الداخلي والسعادة العميقة.
ومن القواعد التي يؤكدها فريدريك لونوار في «رحلته الفلسفية» نحو السعادة ضرورة أن يدرك الإنسان أنه من أجل بلوغ الإحساس العميق بالسعادة عليه أن يجعل من حياته «رائعة في فن العيش». ويؤكد أن امتلاكنا لقدر أكبر فأكبر من الأشياء المادية لن يجعلنا أكثر سعادة. ومما يقوله: «إن المؤشرات الداخلية النفسية للثراء هي أكثر قيمة من المؤشرات الخارجية المادية».
ويشير المؤلف إلى أن ما يعرفه الجميع هو أن السعادة بالمعنى الشائع لا يمكن أن تكون شاملة كاملة ودائمة ومن هنا يميل البشر إلى جعل إيقاع لحظات سعادتهم أكثر ترددا. وفي ما هو أبعد من جميع الخلافات يتفق الجميع على أهمية «السيطرة على أهواء الذات وبلوغ الحرية الداخلية. وقبل كل شيء الابتعاد عن العنف حيال الذات وحيال الآخرين. وهذا ما كان يعبر عنه فلاسفة اليونان القدامى بالبحث عن الحياة الكريمة عن السعادة».
 المؤلف في سطور
 فريدريك لونوار. فيلسوف وعالم اجتماع وكاتب فرنسي. نال شهادة الدكتوراه من مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية. يترأس تحرير ملحق جريدة «لوموند» الفرنسية الخاص بالأديان والمعتقدات. ساهم في الإشراف على إعداد ثلاث موسوعات فلسفية. قدم ما يزيد على 40 كتابا من بينها: شفاء العالم التيبت: لحظة الحقيقة زمن المسؤولية البوذية في فرنسا.
الكتاب: حول السعادة.. رحلة فلسفية – تأليف: فريدريك لونوار – الناشر: فايار – باريس- 2013 – الصفحات: 240 صفحة – القطع: المتوسط

قد يعجبك ايضا