شبح المستقبل المخيف
فتحي الشرماني
قد يكون من الطبيعي ظهور الطبقية والتمايز الفئوي في مجتمع حضري مستقر (زراعي/ تجاري/ صناعي) مثل اليمن القديم لأن بعض المهن والحöرف ترتبط ببعض الفئات ولأن الوافد يكون في كثير من الأحيان مستضعفا يراه السكان الأصليون أقل شأنا منهم, لكن من المستغرب أن يفرط اليمنيون اليوم بتلك المظاهر الحضارية (الزراعة والتجارة والصناعة) التي سطع نجمهم بها ويظل البعض متمسكا بالجانب السلبي منه, أي الطبقية والطائفية, لاسيما أننا اليوم في غمرة التخلف الحضاري .. وأنا أقصد بذلك أن أقول: لماذا الاستعلاء على بعضنا اليوم ونحن جميعا في الحضيض¿ ما قيمة أن يستدعي بعضنا اليوم التمايز الأسري أو السلالي وجميعنا نشكل طبقة مهمشة حضاريا في مجتمع الاقتصاديات المتقدمة¿
سأضع بين أيديكم نصا مما كتبه عن تاريخ اليمن في الجاهلية المؤرخ العربي الكبير جواد علي في كتابه “الموسوعي (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)ج14, ص199, فهو يقول: (اليمن هي في مقدمة أجزاء جزيرة العرب في الصناعة ولا نكاد نجد في جزيرة العرب مكانا يسبقها فيها, وهي الأولى في الإنتاج أيضا, وقد عرفت منتجاتها في كل موضع من بلاد العرب, وهي المكان الوحيد فيها الذي زادت صادراته فيه على وارداته وكان مستواه المعاشي فيه أعلى من المستوى المعاشي لبقية أجزاء جزيرة العرب, وكان مستهلكا ومنتجا لحاجته إلى الاستهلاك, ثم هو المكان الوحيد الذي نجد فيه التمايز الطبقي والعنعنات الطبقية واضحة ظاهرة لتباين الظروف المعاشية التي عاشت فيها طبقات المجتمع فأسياد أغنياء وطبقات وسط وطبقات فقيرة معدمة لا تجد رزقها إلا بشق الأنفس. ولم تبرز صناعة اليمن في نوع واحد أو في صنف معين بل برزت في كل نوع من أنواعها المعروفة في ذلك العهد والتي دعت الحاجة إلى ظهورها والتي وجدت موادها الأولية فيها, مثل صناعة الحديد, واستخراج المعادن وتحويلها إلى مصنوعات والتجارة, والحياكة والدباغة والأصباغ والصموغ وغير ذلك من صناعات اشتهرت اليمن بها وارتبط اسمها بها).
هذا هو حال اليمن في العصر القديم, لكن أين يمن اليوم من ذلك¿
ألا تلاحظون أنه ضاع كل شيء من هذا التاريخ, ولا توجد اليوم أية بوادر مجتمعية لإعادة هذه النهضة, ما عدا تلك البوادر التي تسعى من جديد إلى إذكاء النزعة الطبقية والطائفية التي هي نزعة جاهلية في الأساس, قبل أن تكون نتاجا لظهور الأحزاب السياسية والمذاهب والطوائف الدينية في العصور الإسلامية¿
إننا في هذه الحالة نبدو مصرين على التمسك بالغث وترك السمين, وهذا الإصرار – في رأيي – يعني قمة العمى والانحدار والتخلف لأن إذكاء النزعات الطائفية والطبقية البغيضة في مجتمع غير منتج معناه القضاء على هذا المجتمع بالموت البطيء, ذلك أن الفراغ وتبديد الطاقات وتفشي البطالة في هذا المجتمع لا بد أن تخلق مساحة كبيرة لتلقي الأفكار المسمومة كالطائفية والطبقية والفئوية والجهوية, وبالتالي تؤثر هذه الأفكار تأثيرا خفيا في عقلية الإنسان المعاصر, حتى يصبح كتلة متحركة من مشاعر البغض للآخرين والاستعلاء عليهم, وخوض الصراع المرير من أجل ترسيخ هذه المعتقدات.
مع بزوغ شمس الطائفية اليوم واستحلاء البعض لها تأكدوا أننا سنظل في العتمة, سننهار, سنظل نهيم في الأرض عشرات السنين, لأنه في ظل هذه الأفكار العقيمة لن يكون هناك شيء يهمنا من أمر هذا الوطن وتطوره ونهوضه سوى أن نستعلي على بعضنا, في الحين الذي يستمر الآخر في الاستعلاء علينا جميعا!!
ولأننا أفرغنا وطننا من مظاهر الحضارة كالصناعة والزراعة والتجارة ومنافسة الشعوب الأخرى في ذلك فإننا سنظل نحتسي الفراغ, وسنظل فقراء نتقاتل على بقايا تمرة – كما قال الشاعر نزار قباني – أو نتقاتل على جلد حصيرة – كما قال الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول).. فهل من فارس أو فرسان يطفئون نار الطائفية ليبعدوا عن أعيننا شبح المستقبل المخيف¿!