هكذا نفهم الحرية
عبدالرحمن مراد

مقالة

يأتي ملفوظ الحرية في مقدمة المفردات التي أفرزها الواقع السياسي وساحات التغيير والحرية إلى الدرجة التي قد تسمع فيها اقتران هذا الملفوظ بملفوظ السلام في التحايا .
البعض يظن في الحرية فعلا نزقا طائشا وآخر يرى فيها تحررا من نظام يسعى إلى ضبط إيقاع الحياة ومفرداتها وآخر يظن فيها انعتاقا من سلطة الزمن وهناك السواد الأعظم الذي يرى في الحرية التي يتحدث عنها السياسي هذه الأيام لا تعدو عن كونها رحيل الرئىس من الحكم ومغادرته البلاد إلى بلاد أخرى.
وحقيقة الحرية هي القدرة على تجاوز القسر الخارجي والإنسان الحر هو ذلك الذي لم يكن عبدا أو أسيرا للقوى السياسية أو الاجتماعية او النفسية أو الميتافيزقية يقول المفكرون إن الحرية تتجلى بالتنفيذ أو التصميم وقد تتصل بمملكة الاختيار والتنفيذ هو القيام بعمل ما أو الامتناع عن ذلك بتلقائية مستقلة والتصميم هو الاختيار المنبثق عن القدرة على تحقيق الفعل دون الخضوع لتأثير قوى باطنة سواء أكانت تلك القوى ذات طابع عقلي كالبواعث والمبررات أم ذات طابع وجداني كالدوافع والأهواء والاختيار عند أبي حيان التوحيدي هو إرادة تقدمتها رؤية مع تميز والفعل كما يراه الغزالي هو ما يصدر عن الإرادة حقيقة والفاعل هو من يصدر منه الفعل مع الإرادة للفعل على سبيل الاختيار ومع العلم بالمراد وتظهر حرية الاستقلال الذاتي في العمل المبني على التصميم المقرر وفقا لضرورات العقل والمنطق وحينها يكون العمل مطابقا لمبادئ أخلاقية يقرها العقل وتقبلها الإرادة .
أما حرية الكمال كما يرى ذلك المفكرون فهي مبنية على معايير مثالية تتمثل تلك المعايير في القدرة على التحرر من كل شر وكراهية ورغبة.
وهذا النوع من الحرية هو فعل الله وحده لأن الله وحده وهو الحر بأكمل معاني الحرية وأما الموجودات المخلوقة فهي ليست حرة إلا بقدر قدرتها على السمو بنفسها فوق الأهواء.
يقول ستيوارت الحرية الحقة هي التي تحدها حرية الآخرين كما يحدها ما وقع عليه الإجماع الشعبي من القوانين والعمل الحر هو العمل الواعي المدرك المدبر المعقول القائم على التنظيم العقلي والتفكير السليم ولذلك يجب أن نضع حدا فاصلا بين الحرية والفوضى.
فالمجتمع الذي يتنكر أفراده لقوانينه يصبح مجتمعا غابيا تحكمه الغرائز والأهواء ومتى حكمته الغرائر والأهواء تهاوى وتداعى على من فيه ولا سبيل إلى الخروج من حالة الفوضى والغابية إلا باحترام القوانين الضرورية التي تفرض النظام وتحفظ التوازن بين أفراده ولذلك هناك من يذهب إلى القول إن الحرية الصحيحة هي النظام الصحيح الذي يدبر شؤون الجميع ويرعى مصالحهم وينظم علاقاتهم.
يقول هيجل إن الحرية هي معرفة الضرورة وقال أيضا إن الحرية قد توجد أيضا على صورة حرية مجردة لا أثر للضرورة فيها .. ولكن هذه الحرية الكاذبة إنما هي التعسف بعينه.. ومن ثم فإنها مناقضة لذاتها تماما لأنها بمثابة تسلسل لا شعوري أو مجرد صورة وهمية من صور الحرية أو هي بالأحرى مجرد حرية صورية محضة.
إن الإنسان الحر هو الذي يختار الحالة التي يريدها لنفسه بنفسه وهو الذي يختار المواقف التي يقفها حيال النفس والناس والأشياء.. وهنا تظهر مسؤوليته بأوضح معانيها كما تظهر القيم التي يصنعها بإرادته ويتبناها بحريته ذلك لأن الحرية مسؤولية وقيم في آن واحد ولذلك يتوجب على الإنسان الحر الصحيح الحرية أن يحافظ على القيم التي يخلقها بمحض إرادته ويسمو بها وأن يتحمل مسؤولية أفعاله معتمدا على شجاعة أدبية قوية وأمل مشرق بوجود حقيقي ودأبه أبدا استشراف المستقبل وفهم كنه الرسالة وطبيعتها وما يضطلع به وأن يخطو خطوات إلى الأمام بروح متفائلة ذلك أن الحرية الإنسانية تجاهد دائما من أجل إثبات ذاتها ولا تحقق اختيارها من العدم ولكنها تتفاعل مع موقف وتندمج فيه وتتقبله بفعل ذلك الاختيار نفسه.
فالحرية.. إذن حوار متواصل مع الآخرين وهي اتصال مستمر مع الأشياء وعلينا أن نفرق بين الحرية الخرقاء التي يمارسها عادة الأطفال وأولئك المتوحشون وبين الحرية الرشيدة التي هي سمة من سمات الجماعات المتمدنة والحرية الصحيحة هي تقييد التصرف الذاتي مراعاة للغير.. فيأتي فعل الطاعة من الداخل وليس خضوعا لإرادة متسلطة من الخارج وهذا يقودنا بالضرورة إلى التفكير الإبداعي الذي هو أسلوب من أساليب التفكير الموحد الذي يسعى الفرد من خلاله إلى اكتشاف علاقات جديدة أو أن يجد لمشكلاته حلولا جديدة أو أن يبتكر مناهج حديثة أو موضوعا جديدا مبتكرا أو يخلق صورا أو أشكالا جميلة وهو بذلك قد يصل إلى مرتبة من مراتب الإنتاج وهذا الإنتاج لن يكون تقليديا ولكنه إنتاج جديد ينبثق عن إحساس المنتج وعقله وإثارته الداخلية الذاتية ولا يكون تقليدا لأعمال أو أشكال أو أشياء أخرى بقدر كونه أصالة في الحس والعمل والخلق وفي السياق