دور التقنية في صناعة الصورة المعاصرة
د. عبد الله الكوماني

د. عبد الله الكوماني –
لقد تطورت الصورة المعاصرة بتطور التكنولوجيا التي أفرزت صناعة الشاشة التي تعني فاصلا أو حاجزا تفصل بين الواقع والخيال ولفهم آلية فعالية الصورة ربما يتوجب علينا أن ننظر بعين جادة إلى دور الشاشة في عملية الفرجة الشاشة تنقل صورا من عالم آخر مختلف من موقع آخر من زمن آخر (مهما كانت طبيعة هذا الزمان أو المكان) تنقله على الحاضر إلى آنية معينة هي آنية الفرجة والتي تقتصر في هذه الحالة على كونها شخصا مشاهدا وشاشة.
وبين الاثنين تبدأ لعبة الإيهام تطرح الشاشة الصورة وكأنها امتداد للواقع أو جزء منه.. فنرى الواقع والإيهام يتحركان على امتداد بصري يومي في الصالات وعلى جدران المدن وكذلك في المطارات والساحات والبيوت فالشاشة فرضت نفسها كواقع آخر ينقل صورا من عوالم مختلفة.. وهنا يمكن تصور اختلاط البصري عندما تتحرك الصورة على شاشات العرض وتتجمد بالصورة الثابتة.. والمفارقة المعاصرة انك يمكن أن تجلس في البيت أو المقهى وتشاهد الاثنين معا.. والسؤال كيف يستطيع الفن والرسم تحديدا أن يجد لنفسه مقعدا داخل فضاء متحرك على الشاشة وصور الفوتوغراف التي تغطي المساحات الكبيرة وتؤدي دورا معلوماتيا وجماليا هائلا. فتعددت أسباب الفرجة الإجبارية.. منها الحصول على المعلومة أو ملاحقة حدث وكذلك للمتعة.. الشاشة تفرض نفسها علينا واقعا.. كما تقول موندزين في كتابها ” هل يمكن للصورة أن تقتل”.
ففي سياق كلامها عن الإيهام ودور الشاشة فيه تورد المثال الآتي: أطفال في غرفة يتابعون فلما بانسجام كامل لدرجة أنهم ينسون تماما أنفسهم ويدخلون في الايهام ينسون وجود الشاشة تمر المربية لتخاطبهم فتقطع عليهم تسلسل المتابعة يصرخون طالبين منها الابتعاد (المربية هنا هي الشاشة لأنها فصلت بين الواقع والخيال) وفي هذا المثال البسيط توضيح لمفارقة وجود الشاشة في فنون الصورة في هذا المنحى أيضا يأتي التحذير من السماح للطفل بان يتابع ما يريده من صور لأنه سينخدع وسيصدق الطفل نموذج لمتفرج لا يمتلك الحرية النقدية يتعامل مع المادة المعطاة له على الشاشة من خلال تمثل عال يعطيه متعة هائلة لكنه يضلله.
هكذا الصورة تبث عن طريق الشاشة حتى أصبحت في تناول الجميع فكسرت اسطورة التصوير كنتاج لفنان مبدع حصرا إذ بواسطة آلة تباع في الأسواق (قسم منها يستعمل لمرة واحدة) (كشفرات الحلاقة) أصبح بإمكان طفل أن يصور صورا ثابتة أو متحركة.. ومثلما ذكرنا في بحثنا عن اثر (الكولاج) فن اللصق في متحول الفن فان عمليات المونتاج واللصق سمحت بالنسخ والاستعادة والتكرار واستخدام الصورة نفسها في حالات عديدة إضافة إلى أن الصورة المتحركة سمحت بتسجيل الأحداث السريعة ومن ثم معالجتها.
من الناحية الفلسفية خلقت الصورة المتحركة والفوتوغرافية علاقة جديدة بالزمن فقد سمحت بالتقاطه ثم قامت من خلال الصورة المتحركة- الرقمية بتسجيل الامتداد الزمني وعبرت عليه بسهولة كبيرة ولكن الأهم هو التحول الذي طرأ على إدراكنا لمفهوم الزمن (بمعناه المجرد) من خلال قدرة الصورة على استعادة الماضي وتوضيعه في الحاضر والرجوع إلى الوراء لتبدو الصورة المستعادة كأنها إشارة إلى ظل الواقع بالمعنى الافلاطوني وعليه فالواقع بحد ذاته قد يبدو ظلا هو الآخر لحقيقة ابعد ومن هنا فأننا قد نتعامل مع عالم افتراضي غير ملموس في أشكال التخاطب الالكترونية. لقد تأثرت اللوحة بهذا العالم من حيث الشكل وكذلك الجوهر.. لان لوحة الرسم تعلق وسط حشد من الأضواء الذي يسرق منها بريقها. وبالتالي تحولت عبر وسيط الشاشة إلى التعبير عن نفسها وحضورها وكان أن تحركت إلى تلك المنطقة عن طريق فن الجرافيك عندما ملأت الشاشات بالإعلانات واللوحات المحمولة على لغة ليست لغتها القديمة.
ظهرت في ضوء ذلك تقنيات إخراج اللوحة الجديدة وساهم الحاسوب اليوم في فتح مجالات لم يكن إلى فترة قريبة باستطاعة الفنان إدراكها.
لقد صار بإمكان الفنان أن يقوم بعملية الرسم على الشاشة ثم يطبع نتاجه حيث يشار ما بواسطة طباعة (الفلكو) احد أنواع الطباعة البارزة التي تستخدم المادة المطاطة وسيطا طباعيا. التي حلت محل القماش كما يستطيع الحاسوب أن يوفر (باليت) من الالوان بتجهيزها بتدرج لوني يتكون من 256 درجة مختلفة للون الواحد.. وعليه فاللوحات المنتجة اليوم تتعامل مع وسائط أخرى غير تلك التي جاءت بها حركة ما بعد الحداثة.. التي عمدت على إعطاء غرابة في المادة..
إن غرابة المنتج لم تعد قائمة مع سلطة الشاشة وملحقاتها.. وقد يسعى الفنانون أو هم كذلك إلى استثمار الطاقة العظيمة لعصر الشاشة في اخراج صورة (لوحة) لاتشابه الصور الفوتوغرافية الثابتة أو المتحركة وإنما تأخذ مدارها التقني وترميها اللوحة.. مركب بين أثيرية الضوء ومادتها الحسية.