المعايير المزدوجة
أحمد الشرعبي
أحمد الشرعبي –
بدت العاصمة صنعاء – منتصف هذا الأسبوع – زاهية بنمط من الحوارات الصاخبة التي تستعمل الحاضر أداة لمحاكاة الماضي وتوظف مهام المستقبل لتطريز شمعدانات تراثية كان الأولى إحالتها إلى ركن قصي في متاحف التراث.
لم يتغير شيء من مكونات المومياء.. إنهم ذاهبون نحو حقل من الألغام الخطرة ولديهم حصريا خارطتها ويعرفون جيدا كيف يصلون إلى مصالحهم بسلام.. ولهذا لا يريدون لقوى التغيير ولا لذوي المصلحة الحقيقية في المستقبل المشاركة في اقتحام حقل مصالحاتهم.
ليس هنا غير خامة واحدة تتشكل على أكثر من ملمح لتغدو الانحيازات الشعبية – خارج مشهد الحوار – حالة عبثية لا تستحق إجهاد الذهن في توصيف مثلياتها السياسية التي يدفع المجتمع كلفتها بمشقة.
هنا حيث يعيش نحو 80% من السكان تحت خط الفقر وتتعدى الأمية 50% على الأقل وتصل البطالة إلى 75% وحيث تقدم الإحصاءات الدولية صورة كارثية للوضع الإنساني البائس بأعراضه المختلفة.. ومع ذلك سنرى صناع الكارثة يتصدرون الحوار ويتوزعون قاعاته ويطبعون ابتساماتهم العريضة على عدسات الكاميرا ليكون أقرب توصيف لحقيقة ما يحدث أن حوارا وطنيا بدأ اشغاله بين شركاء صراع وحكم وثأر بالتجاور مع كيتونات تجزئة وقمريات اصطفاء.
غير أن فرزا بهذا القدر من الخصوصية والدقة يجعل القوى السياسية والأكاديمية الجديدة في حل من الالتزامات المترتبة عليه اللهم إلا إذا ثابت أطراف الصراع إلى رشدها واستثمرت الفرصة التاريخية المتاحة أمامها واحترمت الجهود الإقليمية والدولية المبذولة لإنجاح الحوار وشرعت في عملية نزع الألغام وتأمين ممرات عبور تاريخي للأجيال الشابة والقدرات الوطنية المتحررة من ضغائن الماضي لتشق طريقها نحو يمن جديد وهي العبارة التي رددها الرئيس هادي مرارا لتقابله القوى السياسية التقليدية بالخذلان فضلا عن تعمدها تعكير صفو علاقاته مع العمق الاجتماعي والمعرفي والوطني لثورة التغيير المستهدفة بالوأد وهي ما برحت مهد طفولتها.
قبيل التئام المؤتمر الوطني بأيام قليلة تسللت أيد غير بريئة لتنال من ثقة رئيس الجمهورية بها ونستطيع رؤية بصماتها السوداء في صفحات الحدث الكبير- ربما – أكثر من الحدث نفسه!.. وكما هو معلوم فإن من طبيعة الحوارات الجادة الأناة والتروي وبعد النظر وهي لا تكون جادة عندما تتشكل من خامة واحدة لأن المشتقات المتفرعة وإن أدت وظائف مختلفة إلا أن ذلك لا يغير من أصل الخامة الرئيسة.. بيد أن طينة التخلف ذات قابلية سهلة لصناعة تماثيل فخارية لكل منها أكثر من وجه.. وكلما اشتد تزاحم الأعداد كلما غابت الرؤى وهنا يبرز دور المثليات السياسية التنكرية لنفاجأ بالتطرف منافحا عن السلام ونسمع الزعيم القبلي البائد يدافع عن الدولة المدنية ويقابلنا اليساري التقدمي متقربا إلى الله بقناعاته الحداثية كما كان هذا شأن مجمل المراحل الانتقالية في اليمن.
ترى هل ننطلق في رؤيتنا للحوار الوطني من قناعات تشاؤمية سوداء تفرز عقدا نرجسية ومكابرات شيطانية باعثها (الأنا) أم أن معطيات الواقع أكبر من قدرتنا على التغاضي¿
تشير الدراسات المتخصصة في الأداءات السياسية وعلوم الاجتماع أن المقدمات تحدد نوع النتائج!
إن حوارا يتم الإعداد له بمعايير ولائية ضيقة ومزدوجة سيضيف شعورا بالغبن عند أوساط واسعة من القوى السياسية والتيارات الفكرية التي أضعفتها فكرة المدنية في مجتمع (عسقبلي) ولا شك أن ممارسة كهذه لا تساعد على ترسيخ مبدأ الشراكة التي حددتها الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية وفي نفس السياق فإن حوارا وطنيا يمثل 25 مليون نسمة ولا يجد في أوساط الشعب بدائل مقبولة تغنيه عن مصادرة قيم التمثيل الوطني لصالح تمثيل عائلي يحتكر المشاركة على نافذين وأبنائهم وأقربائهم مثل هكذا حوار لا يترجم متطلبات التغيير وإنما يعطي مبررات طارئة لسياسات التوريث التي انتهجها نظام صالح.
بودنا أن نسأل.. كيف لمعظم الأطراف التقليدية أن تبني دولة القانون وهي على دأبها في الاستقواء بالسلاح قبل وأثناء المشاركة في المؤتمر الوطني للحوار.
كيف نتحدث عن فجائع الدولة المركزية المهترئة وندخل إلى الحوار من بوابة المركزية وتراث العصمة السياسية.
وكيف يسكن روع اليمنيين وتتعزز ثقتهم بالحوار واحتكام أطراف الصراع لنتائجه وهم يسمعون الرئيس السابق ينقض التزاماته ويصف مجريات الأحداث ومخرجات التسوية ومحددات المبادرة الخليجية بالبطلان متذرعا بالقاعدة الفقهية (ما بني على باطل فهو باطل)¿!
سيقال: وهل كان ثمة بدائل أفضل لتدارك