زبيد .. سحر الخيال وبؤس الواقع

هشام علي

هشام علي –
لم نجد سحر الخيال في الحلقة الأولى من المقال هكذا يقول كل من قرأ تلك الحلقة وأنا نفسي أقول الشيء ذاته وأخشى أن يستمر بؤس الواقع غالبا على المقال خاصة إذا استسلمت لسيل الأسئلة المتواردة على الذهن أو تلك الأسئلة التي تستقبلك بها المدينة وأنت توشك على الدخول إليها أو تحاول الاستراحة في أحد مقاهيها.
قطعت سلسلة الأفكار والأسئلة المتزاحمة وبدأت بقراءة كتاب «مدن لا مرئية» أو مدن الخيال كما أسماها المترجم العربي والكتاب للروائي الإيطالي إيثالو كالفينو الذي يجمع في سرده بين الواقعية السحرية لأمريكا اللاتينية وبين الرواية التاريخية الأوروبية وليس ثمة غرابة فإيثالو كالفينو ولد في إيطاليا وعاش معظم عمره في كوبا وجمع في أدبه بين الميراثين السرديين وله كثير من الروايات والقصص وأدب الخيال العلمي.
في هذا الكتاب «مدن الخيال» يذكر مدينة باسم «زبيد» وذلك تحت عنوان «المدن والرغبات» ليست زبيد التي نراها اليوم أو رآها أقوام قبلنا منذ زمن إنها إحدى مدنه اللامرئية التي وردت في حكايات البحار البندقي «الفينيسي» ماركوبولو التي كان يرويها لامبراطور الصين قبلاي خان لقد كان يحدثه عن رحلاته في مدن لا وجود لها على أي خارطة بل ليس لها زمن تنتمي إليه إنها مدن خارج الجغرافيا وخارج التاريخ مدن تزرعها المخيلة وتزرع مسيرة رحلاتها الأحلام وأغرب ما في الأمر أن الامبراطور قبلاي خان كان يصغي بفضول واهتمام لحكايات ماركوبولو رغم أنه لم يكن يصدق شيئا مما يرويه.
يذكر ماركوبولو مدنا صنعتها الأحلام والرغبات ويذكر أنه وصل بعد إبحار دام سبعة أيام وسبع ليال إلى مدينة اسمها زبيد «يصل المرء إلى زبيد المدينة البيضاء المكشوفة جيدا للقمر ذات الشوارع التي تدور على نفسها كخيوط كبة الغزل ويروي في تأسيسها أن رجالا من جنسيات مختلفة رأوا حلما واحدا امرأة تجري في عز الليل وفي مدينة مجهولة رأوها مدبرة بشعرها الطويل عارية حلموا أنهم كانوا يتبعونها وأخيرا فقد كل منهم أثرها ولما استيقظوا من حلمهم انطلقوا للبحث عن المدينة فلم يعثروا عليها لكنهم التقوا في مكان واحد فقرروا بناء مدينة كمدينة حلمهم ولتنظيم شوارعها أعاد كل واحد بناء شوط مطاردته للمرأة وفي الموضع الذي كان قد فقد فيه آثار الهاربة نظم الفراغ والجدران بصورة مختلفة عما كان في حلمه بحيث لا تتمكن من الفرار وكان هذا ما أعطى مدينة زبيد شكلها حيث أقاموا ينتظرون ليلة يتكرر فيها المشهد ولم ير أي واحد منهم المرأة بعد ذلك لا في الحلم ولا في اليقظة ولم يكن يربط شوارع المدينة تلك التي ينطلقون عبرها إلى أعمالهم كل يوم أي علاقة مع مطاردة الحلم بعد أن طواه النسيان من زمن بعيد».
كانت هذه هي مدينة زبيد مدينة شكلتها الأحلام والرغبات امرأة عارية تركض في ليل الأحلام يطاردها رجال يخرجون من مخادع نومهم للإمساك بذلك الحلم وفي سياق المطاردة يرسمون موقع المدينة ويخططون شوارعها كل يشق طريقا من حيث أتى إلى مدينة الأحلام والرغبات.
تتكرر الحكاية ويتكرر الحلم ويتكرر شكل المدينة ما عدا بعض التفاصيل في مركز المدينة حيث يحاول المطاردون إغلاق جميع المنافذ حتى لا تهرب تلك المرأة التي تركض في أحلامهم.
يواصل ماركوبولو حكايته عن المدينة : «وصل رجال آخرون من بلاد أخرى كانوا قد رأوا حلما مماثلا فتعرفوا في مدينة زبيد إلى ملامح من شوارع حلمهم وكانوا يغيرون مكان الأقواس والسلالم بحيث تشبه بصورة أفضل درب المرأة المطاردة وحيث اختفت لم يعد منفذ للفرار ولم يكن القادمون الأوائل يدركون ما يغري هؤلاء بمدينة زبيد هذه المدينة الساحرة التي لا ترحم».
على هذه الصورة رسمت المخيلة الأدبية للكاتب الإيطالي إيثالو كالفينو ملامح تخيلية لمدينة زبيد مدينة لا تصل إليها من خلال أطالس الجغرافيا وخطوط الطول والعرض بل مدينة تنشأ في الأرض من تقاطع الأحلام والرغبات امرأة شاردة تظهر في ليل الأحلام تتشكل شوارعها الدائرية كمتاهة في مركز المدينة أو في قلبها يختفي الحلم وتضيع الرغبات.
هل اقتربت مخيلة كالفينو من حقيقة زبيد التي نعرفها هل قلب المدينة الضائع أو هويتها المنسية هو ما نبحث عنه إلى اللحظة الراهنة ندور في فلك شوارعها حيث تختفي الأحلام وتضيع الرغبات ليست زبيد التي يصفها الكاتب هذه مدينة أخرى يغطي غبارها المتطاير ملامح تلك المرأة المنزرعة بين الأحلام والرغبات.
لنغلق إذن كتاب كالفينو ومدنه اللامرئية ومرة أخرى نعود لنقرأ زبيد في صفحات الكتب هذه المرة نلجأ إلى كاتب واقعي تفيض كتابته بوصف اليمن.
سنحاول أن نرى صورة زبيد كما وصفها الكاتب محمد عبدالولي في روايته الشهيرة (صنعاء مدينة مفتوحة) أن الذي يروي لنا حكاية المدينة ويصفها هذه المرة بحار يمني عادي ليس ماركوبولو كما رأينا في الحكاية السابقة والذين يستمعون للح

قد يعجبك ايضا