قصة قصيرة 


يذهب في الفجر إلى رحلته الأخيرة بأن أبقى الولد المهذب والمطيع الذي يحترم الأكبر منه سنا ومقاما وأن أقبل ركبة الحاكم والشيخ كلما رأيتهما وسط حراسهما وأن أسعى إلى نيل رضاهما والتبرك بهما وطلب دعوتهما إلى الله بأن يجعلني ولدا مباركا ومطيعا ومواطنا صالحا لا يعصي لولاة الأمر أمرا حتى لو كان فيه قطع رقبتي وأن أمشي دائما مطاطئ الرأس.. وألا أتطلع إلى ما هو أكبر من قامتي وأعلى من طبقتي,فأنا ابن فلاح بسيط وقبيلي مسكين لا يعرف في حياته سوى عناق أرضه وإطاعة أوامر الشيخ والحاكم مهما كانت ظالمة وجائرة فرضى الحاكم والشيخ غاية عظيمة من يحققها ويصل إليها تغلق في وجهه أبواب المعاناة الجهنمية.. وينجو من الضرب المتعدد الاتجاهات رفسا وصفعا ولكما وجرا وقذفا وانهيالا بالعصي والكفوف كما يقي نفسه من تلقي قذائف الشتائم والأهانات الخارقة للأخلاق والضمير وكذلك ينجو من الزج في السجن الكئيب الذي تهون أمامه أية زريبة حمير نتنة!!
} } }
وعندما جئت من قريتي البائسة إلى المدينة,أوصتني أمي كثيرا والدموع لا تكف عن هطولها من عينيها بأن أنتبه على نفسي من بنات المدينة اللائي يغوين الشيطان فما بالك بقروي ساذج يلقى أمامه نساء شبيهات بالحوريات ولكنهن يغوين المرء ويلهينه عن عمله ودراسته ويجعلنه ينسى نفسه وأهله وتصير سمعته »بطالة«!!
وفي المدرسة والجامعة حذرني المدرس الطيب الذي طالما كان يطلق نهدة عميقة من التحسر أثناء تدريس مادة التاريخ بأنه يجب علي الالتزام بعدم التوقف أمام علامات الأسئلة الواقفة كشوكة في حلق الإنسان وكتم الألم حتى لا تظن تلك الآذان المهووسة بالتقاط ذبابات وجع الضمير بأني أحد المرجفين في المدينة..!!
} } }
وعندما التحقت بوظيفة تافهة في مصلحة العدل والازدهار طلب مني المسئول العجوز الذي أعمل تحت إمرته بألا أدع طموحاتي تكبر فلن أصل إلى وظيفة مرموقة وأعلى أبدا مهما عملت ونلت من الشهادات والخبرات.. واكد لي بكل جلافة إني مخلوق ممنوع عليه الطموح!!.
} } }
وفي الشارع عندما كنت أمشي وحيدا وأبكي اغتيال المبادئ والبراءة وانتشار اللصوص والقتلة وتناسل التعاسة والطغاة استوقفني أحد المخبرين والذي وصف نفسه لي بأنه طيب جدا وطلب مني ألا أكون متشائما دائما وألا أكون فضوليا فيما يجري حولي وألا أكون حساسا جدا بما يحدث أمامي من حوادث وفواحش وخطايا وجرائم ترتكب نهارا جهارا وبأيد يتغاضى القانون عنها..
وأن علي أن أسير كسير القامة حسير البصر وعيوني مصوبة على قدمي.. فقط.. وذلك حتى يستطيع أن يكتب في تقريره اليومي بأني مواطن شريف وملتزم ولا أمثل أية خطورة على النظام والأمن العام وأنه لا شبهة علي, ولم يسبق لي المشاركة في مظاهرة ضد انتشار الأمراض والاوبئة والفساد ولم أحتج في يوم من الأيام ضد غلاء الأسعار أو أتبرم من التعاسة التي يزداد اتساعها في المجتمع وبأني لم أهتف لا في السر ولا في العلن بسقوط اللصوص والطغاة ومصاصي دماء الشعب!!
وقبل أن يتركني المخبر الطيب فتش جيوبي وأخذ بقية راتبي وإيجار المنزل الذي يأويني أنا وزوجتي وطفلي كما أخذ القميص الذي اشتريته لطفلي الوحيد ليلبسه في العيد القادم وطلب مني بكل أدب جم أن يقرأ ديوان شعر المتنبي الذي كان بحوزتي.
وعندما ذهب وجدت أنه قد أكل جميع الأرغفة التي كانت في يدي أثناء إصغائى العميق لسماع تعليماته الكريمة!!
} } }
وعندما احببت واشتعل قلبي بنيران الحب ذهبت لطلب يد من إحببتها لتكون قفصي الصغير ولكن والدها طلب مني بأن أقوم باستخراج رخصة قيادة بشرية تؤكد إتقاني التام للقيادة في أشد الليالي حلكة ووعورة وتفيد بخلوي التام من الإيدز والفقر فقر الدم وفقر المال وأنه يجب علي استخراج تصريح رسمي من مصلحة المخابرات الوطنية تشهد بأني خال من كافة الأمراض الفكرية والسياسية ومن أية نزعة موروثة أو مكتسبة تثيرني لامتلاك أي نوع من السلطة أو الاستيلاء عليها بأية طريقة كانت..
وكذلك تشهد بأني أتمتع بكامل أعضائي وحواسي الموضوعة تحت رقابة الحكومة وبأني مواطن ملتزم ومطيع طريقه واحد لا سواه,من البيت وإلى قبر الوظيفة والعكس..
} } }
وعندما جلست مع نفسي وحيدا لمراجعة أوراق حياتي استعدادا للتقدم إلى الجهات المختصة بمنحي رخصة للسير في أوساط الناس بقامة منتصبة مرفوعة الهامة والرأس تحسست رقبتي فلم أجدها.. فحاولت أن أتذكر هل نسيتها عند معمل تحليل حكومي لفحص وقياس مستوى الطموح غير الشرعي أو زيادة نسبة الإحساس الوطني أو ارتفاع مستوى الإباء..¿!
لكن لم يحصل من ذلك أي شيء ولم أترك رقبتي عند أي من تلك المعامل الحكومية.. تحسست رقبتي للمرة الثانية فلم أجدها وإنما وجدت مكانها مشجبا وعليه ورقة معلقة بها تعليمات وشهادة تفيد بصلاحيتي الوطنية,وذلك بدلا

قد يعجبك ايضا