في وقت يعاني فيه قطاع غزة من حصار مستمر وحروب متكررة، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليعلن عن «خطة السلام» التي تهدف بحسب وصفه إلى إعادة الاستقرار والازدهار للقطاع. كلمات براقة وأرقام مضللة، لكنها تخفي وراءها حقيقة واحدة لا يمكن تجاهلها: هذه الخطة لا تهدف إلى خدمة الفلسطينيين أو وقف العدوان، بل لتعويض ما فشل الكيان الصهيوني الإسرائيلي المحتل في تحقيقه منذ عقود، وفرض واقع جديد على الأرض الفلسطينية تحت إشراف أمريكي كامل. غزة اليوم ليست مجرد قطاع محاصر، بل معركة مستمرة للإرادة والكرامة، والرهان على أوهام ترامب يُظهر حجم التحدي الذي تنتظره أمريكا والاحتلال معًا.
تتضمن الخطة الأمريكية عدة بنود، أبرزها وقف القصف لمدة 72 ساعة فور قبول الكيان الصهيوني الإسرائيلي المحتل بها، الإفراج عن الأسرى والمعتقلين، إدخال المساعدات الإنسانية فور قبول الاتفاق، ضمان ممر آمن لأعضاء حركة حماس الراغبين في مغادرة القطاع طوعاً، وإطلاق الحوار السياسي المباشر بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني الإسرائيلي المحتل. ولكن الواقع يكشف أن هذه البنود ليست أكثر من أدوات لإعادة صياغة الاحتلال، وتقديم صورة إعلامية وردية، بينما تستمر السيطرة على القطاع وفرض القيود.
أخطر ما في الخطة هو ربط الانسحاب العسكري التدريجي بعملية «نزع السلاح»، كأن الحياة في غزة مرهونة بتسليم مفاتيح القوة والمقاومة. الكيان الصهيوني الإسرائيلي المحتل، الذي فشل مراراً في إخضاع غزة بالقوة، يحصل هنا على ضمانات كاملة، بينما يُطلب من الفلسطينيين التخلي عن وسائل الدفاع الأساسية، وحقوقهم في أرضهم وحياتهم. هذا الربط يعكس مدى استمرار محاولات السيطرة على غزة وإخضاع سكانها، رغم صمودهم الطويل.
طرح فكرة «الممر الآمن» لأعضاء حركة حماس الراغبين بالمغادرة يعكس ذهنية استعمارية بحتة، وكأن الفلسطينيين مجرد أجساد يمكن نقلها أو تفريغها من رموز قوتها، لا شعب يملك الحق في الأرض والقرار. أما الحوار المباشر، فهو نسخة معدلة من مفاوضات سابقة فشلت، إذ لم تحقق أي تقدم حقيقي أمام التوسع الاستيطاني وتهويد القدس والحصار المستمر. كل ذلك يظهر أن الهدف الحقيقي ليس السلام، بل إعادة إنتاج فشل الاحتلال تحت غطاء أمريكي.
ترامب يسعى خارجياً لإعطاء الكيان الصهيوني الإسرائيلي المحتل ما لم يستطع تحقيقه: غزة بلا تهديد، تحت رقابة دولية وأمريكية، ومفتوحة أمام مشاريع اقتصادية مشروطة بالامتثال الكامل للسياسات الأمريكية والإسرائيلية.
غزة اليوم ليست غزة الأمس. الشعب الفلسطيني أثبت أن أي خطة لا تعترف بحقوقه الوطنية، ولا تضع حدًا للاحتلال، ليست أكثر من ورقة للاستهلاك الإعلامي. فكل هدنة لا تُنهي الاحتلال، وكل مبادرة لا تحترم الحق الفلسطيني في الأرض والقرار، ستظل حبراً على ورق.
الرهان على نجاح خطة ترامب يشبه محاولة إعادة تدوير أوهام فشلت فيها كل الخطط السابقة. فحتى أكبر العمليات العسكرية والسياسات القمعية التي نفذها الكيان الصهيوني الإسرائيلي المحتل على مر العقود لم تنجح في إخضاع غزة أو كسر إرادة شعبها. وما يحاول ترامب الآن، هو إعادة إنتاج تلك المحاولات ضمن شكل دبلوماسي مزيف، تحت شعار السلام، بينما تبقى غزة صخرة صلبة لا تُهزم.
خطة ترامب ليست مجرد خطة عابرة، بل محاولة أمريكية مستمرة لتشكيل الواقع الفلسطيني بما يخدم الاحتلال، لكنها محكوم عليها بالفشل كما فشلت كل الخطط السابقة. غزة مستمرة في كتابة تاريخها بدماء أبنائها، عصيّة على الانكسار، ترفع رايتها في وجه العالم وتعلن: هنا فلسطين، هنا الكرامة، وهنا يولد المستقبل.