شكّل إسقاط خلية التجسّس التابعة للموساد ووكالة الاستخبارات المركزية والمخابرات السعودية محطة فارقة لفهم المشهدين الأمني والاجتماعي معاً، فهذا الإنجاز بما كشفه من حجم التغلغل الذي بلغه أفراد الخلية داخل النسيج المجتمعي، يقدم درساً بالغ الأهمية حول كيفية تشكّل الثقة، وكيف يمكن لقيمة إنسانية نبيلة أن تتحول، إذا مُنحت بلا وعي أو تدقيق، إلى ثغرة أمنية بالغة الخطورة.
وقد اتضح من الاعترافات أن عناصر الخلية لم يعتمدوا على أدوات تقنية معقدة أو اختراقات إلكترونية متطورة، بقدر اعتمادهم على الانغماس الاجتماعي، وهو أسلوب معروف في العلوم الأمنية تحت مفهوم “الاستخبارات البشرية”. فالعميل المدرب يجيد الاندماج في البيئة المستهدفة ويتقن تفاصيل الحياة اليومية وعادات الناس حتى يبدو عنصراً فاعلاً في المجتمع ولا يثير أي ريبة، وقد تلقى هؤلاء تدريبات واسعة على بناء الانطباع وتقمص البساطة والقدرة على قراءة الآخرين والتواصل معهم بطريقة تمنحهم شعوراً بالارتياح وهي مهارات تُدرَّس في مدارس التجنيد العالمية منذ عقود.
بهذه الأدوات الناعمة تمكن بعض عناصر الخلية من كسب ثقة شخصيات وطنية عُرفت بسعة علاقاتها وحسن نيتها، ففتحت أمامهم أبواب المكاتب والمجالس وفضاءات المعرفة الاجتماعية، دون أن تدرك تلك الشخصيات أنها تتعامل مع عملاء انغماسيين يبحثون عمن يزوّدهم بالمعلومات عبر كلمة عابرة أو موقف تلقائي.
استغل الجواسيس القيم اليمنية الأصيلة من كرم وطيبة وحسن ضيافة وحوّلوا هذه القيم إلى أدوات تخدم أعمالهم التخريبية مستفيدين من الثقة التي مُنحت لهم دون حساب.
تؤكد الأدبيات الأمنية أن الخطر الأكبر لا يكمن في الأجهزة المعادية وحدها مهما بلغت قدراتها على الاختراق، بل الخطورة الكبرى في المساحات التي يتركها المجتمع دون رقابة ذاتية، وللتوضيح ليس مطلوباً من الناس اليوم أن يعيشوا في حالة شك وقلق دائم، لكن المطلوب من الجميع هو الوعي بأن العدو قد يكون أمام عينيك يسمع ما تقول ويقدم خدماته للعدو وأنت تراه صديقاً أو زميلاً أو شخصاً نبيلاً.
يبدأ الخطر عندما تختلط لدينا البساطة بالأمن وحين تتحول المجالس العامة في “الساعة السليمانية” إلى مساحات مفتوحة للمعلومات الحساسة ويتناقل الحضور أسماء أو تحليلات أو تفاصيل يرونها عادية، غير أنها قد تدخل في عملية تجميع معلوماتي يراكمه العدو ليصل إلى أهداف استراتيجية.
وعند ظهور شخص يبدي اهتماماً مفاجئاً بك أو بطبيعة عملك أو يطلب التعرف على شخصيات وجهات محددة، فإن التعامل السليم يقتضي التوقف أمام هذا الاهتمام المستجد. تبدأ الخطوة الأولى بالنظر في دوافعه وما الذي يدعوه إلى السؤال، إذ يميل الجاسوس غالباً إلى تقديم مبررات متسارعة أو غير مترابطة. ثم تأتي ملاحظة اتساق سلوكه وهل يتناسب اهتمامه الجديد مع خلفيته؟ وهل يظهر في حديثه ما يوحي بالمراوغة؟ فالتغير المفاجئ في السلوك يُعَدُّ من أبرز المؤشرات التي يعتمد عليها خبراء الأمن الوقائي. وهناك أيضاً مبدأ تقليل المعلومات وهو مبدأ عالمي يقضي بمنح كل شخص القدر الذي يحتاج إليه فقط دون تفصيل زائد فالتفاصيل الصغيرة قد تكتمل مع غيرها لتكوّن خريطة كاملة في يد العدو. كما يبقى الوعي السلوكي الهادئ ضرورياً إذ يكفي أن تتابع نمط الأسئلة وتكرار الاهتمام بموضوع واحد لتكوّن رؤية أولية عن حقيقة من أمامك.
ولنا في التجارب العالمية شواهد كثيرة على خطورة الثقة العمياء، من ذلك قضية “كلاوس فوكس” أحد العلماء في مشروع القنبلة النووية البريطانية، والذي تبيّن لاحقاً أنه كان ينقل أدق الأسرار إلى الاستخبارات السوفييتية، وفي ألمانيا اكتُشف عميل روسي انغماسي بعد سنوات طويلة من اندماجه الكامل في المجتمع المحلي وإتقانه اللغة والعادات لدرجة أنه لم يثر الشك حوله أبداً، كان يعيش حياة طبيعية ويُنظَر إليه على أنه مواطنٌ مخلص، بينما كان يعمل طوال الوقت لصالح طرف آخر.
إن أهم ما كشفته القضية الأخيرة التي أعلنت عنها استخبارات الشرطة في وزارة الداخلية بصنعاء، هو أن الأمن ليس مهمة جهة واحدة، بل هو مسؤولية يشترك فيها الجميع. فالجندي والموظف والمسؤول والمواطن، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، جميعهم يشكلون أجزاء متكاملة في منظومة واحدة تحتاج دائماً إلى اليقظة والانتباه، فالثقة قيمة كبيرة، لكنها حين تُمنح بلا وعي تتحول إلى باب مفتوح للاختراق قبل أي شيء آخر.
وفي ظل هذا الصراع المفتوح الذي تتقاطع فيه الحرب العسكرية مع الحرب النفسية والاستخباراتية، يصبح الالتزام بالوعي الأمني ضرورة لا يمكن التفريط بها، فكلمة تُقال عرضاً في مجلس عام قد تتحول إلى ما هو أخطر من رسالة مشفرة، وتفصيل صغير يرويه المرء بلا حاجة قد يكون بالضبط ما ينتظره العدو ليبني عليه خطوة كبيرة.
ومن هنا تأتي أهمية ترسيخ ثقافة أمنية واضحة داخل الأسرة والمجتمع، فهي خط الدفاع الأول لحماية بلادنا من محاولات الاختراق التي تتسلل أحياناً عبر أبواب نفتحها نحن بحسن نياتنا وطيبة قلوبنا.
والله المستعان.
