الخزائن المفتوحة والسيادة المذبوحة

سليم الجعدبي

 

 

شهدت عواصم الخليج خلال شهر مايو الماضي من العام الجاري 2025م، أكبر عملية استنزاف ممنهج للثروات في التاريخ الحديث، حيث تحولت تلك العواصم إلى مسرح مفتوح لاستقبال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي عاد إلى واشنطن محملاً بغنائم فلكية بلغت قيمتها الإجمالية 5.1 تريليون دولار، تحت لافتة «شراكات استراتيجية» براقة، بينما الواقع يكشف عن دفع «جزية» باهظة لضخ الدماء في عروق الاقتصاد الأمريكي المتهالك، في وقت تعاني فيه شعوب المنطقة من سياسات الإفقار المتعمد.
وتشير تفاصيل هذه الملحمة المالية، التي يمكن وصفها بـ «عملية الحلب الكبرى»، إلى تصدر النظام السعودي مشهد البذخ المفرط بإلزامه الدولة بتقديم 2.3 تريليون دولار، تلاه النظام القطري بالتزام استثماري جديد وصل إلى 1.2 تريليون دولار، لتلتحق الإمارات بالركب مجددة ولاءها بضخ 200 مليار دولار كاستثمارات جديدة تضاف إلى التزامات سابقة بقيمة 1.4 تريليون دولار، خلال زيارة ولي العهد السعودي الحالية قدم دفعة إضافية بقيمة تريليون دولار، لتكتمل بذلك فصول الاستنزاف المالي للثروات العربية.
وفي مفارقة سوداوية تكشف عمق الأزمة، يتزامن هذا الكرم الحاتمي تجاه «السيد الأمريكي» مع واقع مأساوي يضرب الاقتصاد السعودي في مقتل، إذ تؤكد البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة المالية السعودية تضاعف العجز في ميزانية عام 2025 ليصل إلى 245 مليار ريال، أي ما يعادل 5.3% من الناتج المحلي، متجاوزاً التقديرات السابقة، بل إن وكالة «بلومبيرغ» كشفت عن فضيحة اقتصادية مدوية تتمثل في لجوء المملكة، التي تهدي التريليونات لترامب، إلى تسول قرض بقيمة 10 مليارات دولار من بنوك «وول ستريت» لتمويل مشاريعها المتعثرة، وسط دوامة ديون جنونية قفزت بالدين العام من 17 مليار دولار في 2015 إلى 391 مليار دولار بنهاية سبتمبر الماضي، ليتضاعف بذلك 23 مرة.
هذه الفاتورة الباهظة لسياسات الخضوع يدفع ثمنها المواطن المغلوب على أمره، فبينما تتدفق الثروات لشراء سندات الخزانة الأمريكية التي بلغت حيازة السعودية منها 131 مليار دولار، يكتوي المواطن بسوط الضرائب، حيث قفزت ضريبة القيمة المضافة من 5% إلى 15%، وارتفعت معدلات التضخم إلى 2.2%، مما أدى إلى نتائج اجتماعية كارثية وثقتها تقارير «الإسكوا» التي تشير إلى وقوع 3.3 مليون مواطن خليجي في براثن الفقر، وتصدرت السعودية القائمة بنسبة فقر بين مواطنيها وصلت إلى 13.6%، مع توقعات بارتفاعها إلى 18.2%.
وبالغوص في عمق المشهد، يتضح أن الوفد المرافق لترامب لم يكن مجرد رجال أعمال، بل كان تشكيلاً يمثل «حكومة الظل الصهيونية» التي تدير مفاصل الاقتصاد العالمي واقتصاد الكيان الإسرائيلي، إذ تكشف القوائم عن وجود شخصيات مفصلية مثل «لاري فينك»، الرئيس التنفيذي لشركة «بلاك روك»، الذي يدير أكبر أصل مالي في العالم ويرتبط وشراكاته بـ «صندوق الطائفة اليهودية» الممول لآلاف الجمعيات في كيان الاحتلال، كما برزت أسماء شركات تكنولوجية كبرى مثل «كوالكوم» التي يرأسها كريستيانو آمون، والتي تتباهى بدعمها لنمو مجتمع الاتصالات في الكيان الإسرائيلي، بتمويل من الصناديق الصهيونية «فانجارد» و»بلاك روك».
ولم يغب عن هذا المشهد «إيلون ماسك»، الذي انضم للوفد بصفته «يهودياً بالارتباط» -حسب وصفه لنفسه- مدخلاً شركاته في تحالفات تمويلية ضخمة مع الكيانات المالية الصهيونية، ما يؤكد أن أموال الخليج تتدفق عبر هذه القنوات لتصب مباشرة في تمويل البنية التحتية الاقتصادية والعسكرية التي يستند إليها جيش الاحتلال الإسرائيلي في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، حيث تسيطر اللوبيات الصهيونية ذاتها على حصص حاكمة في شركات مثل «أمازون» و»هانيويل» التي وقعت عقوداً مليارية مع دول الخليج.
وعلى صعيد آخر، شكل «الرعب من اليمن» المحرك الخفي وراء صفقات التسلح المليارية التي أبرمتها الأنظمة الخليجية، إذ دفعت الهرولة نحو شراء «الوهم» الأمريكي بالرياض لتوقيع صفقة بقيمة 142 مليار دولار شملت تطوير القوات الجوية والدفاع الصاروخي، رغم الفشل الذريع للسلاح الأمريكي في حماية الأجواء السعودية سابقاً أو حتى حماية السفن الأمريكية في البحر الأحمر، كما انخرطت قطر في صفقة بقيمة 2 مليار دولار لشراء طائرات MQ-9B التي تحولت في سماء اليمن إلى “خردة” تتساقط تباعاً، بينما سلمت الإمارات مفاتيح أمنها السيبراني لشركات أمريكية مثل “G42» و”أمازون”، واضعة بياناتها تحت الرقابة المباشرة لواشنطن.
وتكشف جردة الحساب الدقيقة المستقاة من بيانات البيت الأبيض تفاصيل “سوق النخاسة” الجديد، ففي المحطة السعودية تم التعهد باستثمار 600 مليار دولار فورية وتمويل البنية التحتية الرقمية الأمريكية، وفي المحطة القطرية تم توقيع صفقة “إنقاذ” لشركة بوينغ بقيمة 96 مليار دولار لتوفير وظائف للأمريكيين، أما في الإمارات فقد تم تسخير الاستثمارات لخلق وظائف في تكساس وبناء مصاهر للألمنيوم هناك، في تطبيق حرفي لشعار ترامب “أمريكا أولاً” الذي تفاخر بتحقيقه في شهر واحد ما عجز عنه بايدن في سنوات، معلناً عن عصر ذهبي جديد لبلاده.
وفي المحصلة النهائية لهذا المشهد العبثي، تجد الأنظمة الخليجية نفسها أمام عجز في الموازنات وديون متراكمة وفقر متفشٍ، مقابل تكديس أسلحة أثبتت الوقائع أنها لا تغني ولا تسمن من جوع أمام البأس اليمني المتصاعد، لتتحول تلك الأنظمة إلى مجرد “بقرة حلوب” يتم استنزافها حتى الرمق الأخير لتمويل رفاهية الجلاد الأمريكي وبناء مستوطنات العدو الصهيوني، تاركة شعوبها تئن تحت وطأة واقع اقتصادي وسياسي مرير.

قد يعجبك ايضا