كيف يُعيد الغرب إنتاج الاستعمار بأدوات معاصرة؟

ليندا غدار

 

 

في كلّ أزمة كبرى، يتكشّف مجدّداً التناقض البنيوي في المنظومة الغربية بين القيَم المعلنة والممارسة الواقعية. فبينما تواصل دول الغرب الترويج لخطابات الحرية وحقوق الإنسان، تتخذ قراراتها في السياسة الدولية بناءً على منطق واحد: موازين القوّة.
هذا النمط في التفكير، الذي بات سائداً في الممارسة الغربية منذ قرون، لا ينبع من سياسات طارئة أو مصالح ظرفية، بل من جذور فكرية أعمق، تعتبر الإنسان ـ في صورته غير الغربية ـ مجرد وسيلة، لا غاية، ومجرد أداة توظيفية في لعبة المصالح والهيمنة.
لطالما نُظر إلى الشرق، وتحديداً إلى المشرق العربي، كفضاء مفتوح للهيمنة الغربية: أرضٌ غنية بالموارد، ضعيفة البنية السياسية، منقسمة اجتماعياً، يسهل التحكّم بها. هذه النظرة لم تنتهِ بانتهاء الاستعمار المباشر، بل تحوّلت إلى أشكال أكثر تعقيداً: عبر الحروب بالوكالة، أدوات “الشرعية الدولية”، الهيمنة الاقتصادية، وشبكات النفوذ التي تعيد إنتاج التبعية تحت عناوين مثل الإصلاح أو الاستقرار.
الملف الفلسطيني، خاصة في ما تشهده غزة من مجازر متكرّرة، يكشف هذا التناقض الأخلاقي العميق. فبينما ترفع العواصم الغربية شعار حقوق الإنسان، نجدها تدافع بوقاحة عن الجرائم المرتكبة ضدّ المدنيين الفلسطينيين، وتُبرّر الاحتلال، وتُعيق أيّ مسار للمحاسبة أو الضغط. هذه المواقف لا تعبّر فقط عن انحياز سياسي، بل عن أزمة أخلاقية جوهرية في بنية التفكير الغربي.
في الثقافة السياسية الغربية، لا قيمة حقيقية تُمنح خارج منطق القوّة. من لا يمتلك القوة ـ عسكرياً أو اقتصادياً أو إعلامياً ـ لا يُمنح حقاً، ولا يُعترف له بشرعية. هذه النظرة لا تتعلق فقط بالشرق، بل تنعكس في كلّ ممارسات السياسة الغربية: من احتلال العراق، إلى تدمير ليبيا، إلى دعم أنظمة الاستبداد مقابل الحفاظ على المصالح الحيوية لشركات النفط والسلاح.
فالدول الغربية لا تكتفي بتقديم الدعم العسكري والسياسي، بل باتت تفرض على الدولة المنهكة شروطاً اقتصادية تُفضي إلى مصادرة نصف ثرواتها، تحت عنوان “الدفاع عنها”. إنها صفقة مكشوفة: الحماية مقابل السيطرة. وهذا يُظهر مجدداً أن الغرب لا يتحرّك بناءً على قيَم، بل بناءً على عائدات استثمارية استراتيجية.
يهيمن الغرب على مقتضيات الشرق وثرواته بالقوة العسكرية، الاقتصادية، وبالسردية الثقافية الغرب يصنع سردية أنه منقذ البشرية (العقل، العلم، التقدّم)، بينما شعوب الشرق توصف بالتخلف، العنف، الجهل، والدينوية.
الغرب اليوم ليس في أزمة سياسة فقط، بل في أزمة أخلاق. القيَم التي قام عليها عصر التنوير الأوروبي ـ الحرية، المساواة، الكرامة ـ تتهاوى في كلّ مفصل من مفاصل السياسة الواقعية. وإذا كان المفكرون الغربيون قد تحدّثوا يوماً عن الإنسان كغاية، فإنّ ما نشهده في السلوك الغربي حالياً يعيد الإنسان إلى موقع “الأداة”: في الحروب، في الأسواق، في الإعلام.
هذه الازدواجية في المعايير لم تعد خافية على الرأي العام العالمي، بل بدأنا نشهد أصواتاً داخل المجتمعات الغربية نفسها تعبّر عن هذا التمزق. التعاطف الشعبي المتصاعد مع القضية الفلسطينية ليس مجرد موقف إنساني عابر، بل إشارة إلى تصدّع داخلي في البنية القيمية الغربية، التي بدأت تواجه سؤالاً صعباً: هل يمكن للغرب أن يظلّ مهيمناً، وهو في الوقت نفسه يدّعي الإنسانية؟
إنّ العالم اليوم لا يحتاج إلى مزيد من الخطابات الفارغة، ولا إلى دروس في “الديمقراطية” من دول تنتهكها كلّ يوم في ممارساتها الخارجية. ما نحتاجه هو إعادة بناء خطاب عالمي قائم على الكرامة الحقيقية للإنسان، لا على موقعه الجغرافي، أو انتمائه الثقافي، أو قوّته العسكرية.
في مجتمعاتنا، ورغم كلّ التحديات، لا تزال هناك جذور حقيقية لهذا الخطاب. الكرامة ليست شعاراً، بل جوهر ثقافي. والمظلومية ليست ضعفاً، بل كشفٌ للوجه الحقيقي لمن يدّعون التفوّق الأخلاقي وهم غارقون في التناقض.
في النهاية أرى أنّ ما يجري اليوم ليس مجرد تحوّل في موازين القوى، بل انكشاف حضاري. فحين تصبح القوّة معيار الحق، وتنقلب القيَم إلى أدوات للهيمنة، يفقد الإنسان جوهره. وهذا ما يشكّل التحدي الأكبر في زماننا: أن نعيد للإنسان معناه، وأن نُخرج العالم من منطق القوّة، إلى منطق العدالة الإنسانية .
إنّ تفكيك خطاب الهيمنة الغربية لا يكفي. ما نحتاجه هو إنتاج خطاب إنساني حقيقي، ينبع من قيَم العدل، لا من منطق السيطرة. خطاب يرى الإنسان كغاية، لا كأداة. وهذا لا يتمّ إلا حين نكفّ عن استهلاك مفاهيم الآخرين، ونبدأ باستعادة قدرتنا على التفكير المستقلّ، وبناء نموذجنا الأخلاقي والسياسي خارج مركزية القوة.
في عالم لا يعترف إلا بالقوة، يصبح التمسك بالقيَم خياراً ثورياً في حدّ ذاته.
كاتبة لبنانية

قد يعجبك ايضا