تجاوز حدود التوثيق التقليدي ليقدم صرخة أدبية وفكرية في وجه الصمت العربي والدولي:

“أصداء الطوفان.. صوت غزة في زمن الانكسار”

 

 

خليل المعلمي
ستظل غزة ومعاناة أهلها في ضمير الأديب والمثقف والمفكر العربي، مهما تقاعس الحكام عن نصرتها وتجاهلت الحكومات لواجباتها تجاه القضية الفلسطينية، فما يحدث للفلسطينيين من تنكيل وقتل وتشريد وغبن، ليس أمام المجتمع الدولي الذي يقف مع الطاغية ضد الضحية ومع الظالم ضد المظلوم، ولكن أمام المجتمع العربي الذي يعتبر امتدادا لاخوانهم الفلسطينيين، وتربطهم بهم روابط الاخوة والعقيدة والدين والمصير المشترك، ما يحدث لهم يشيب له الرأس ويندى له الجبين.
ومن وقت إلى آخر، وما بين فترة وأخرى تظهر أعمال أدبية متنوعة مابين كتاب أو رواية أو قصة، تحت بند الأدب المقاوم ليظهر بشاعة الجرائم الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين المدنيين العزل، ويكشف مدى التمادي في ارتكاب هذه الجرائم التي لا يوجد مثيل لها على هذه البسيطة، وخاصة في هذا العصر الذي يمثل التحضر والعدالة والمساواة..
ما يحدث في قطاع غزة من أهوال دفع الكثير من المبدعين إلى تقديم مقاربات إنسانية مختلفة، كلها في إطار تشابك الفنون مع الواقع ونصرتها للقضايا الإنسانية، في وقوف ضد القتل والتدمير الذي ما زال يتعرض له القطاع.
ومن المبدعين كتّاب اختار كل منهم أن يقرأ أو يوثق الواقع من زاويته، ومن بين الإصدارات كتاب للكاتب والصحفي المغربي “عبد الحي كريط”، يجمع فيه بين مختلف أصناف الكتابة في محاولة لتقديم رؤى من زوايا مختلفة لحقيقة وآثار ما يحدث.
في عمله الجديد بعنوان “أصداء الطوفان.. صوت غزة في زمن الانكسار”، يتجاوز كريط حدود التوثيق التقليدي، ليقدم كتابه كصرخة أدبية وفكرية في وجه الصمت العربي الذي يحدث فيه ما يحدث من قتل وتدمير يرتكبه جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد فلسطيني غزة، وكسجل ناطق بمعاناة شعب يعيش النكبة يومياً ويدمر الدم والركام.
الكتاب لا يقرأ كأرشيف للحرب، بل كإرادة سردية مقاومة، تستدعي الذاكرة من أن أنقاض الصمت، وتعيد بناء الوعي من خلال ثلاثة مستويات مترابطة: الحوارات المقالات التحليلية، والنصوص الشعرية والنصوص النثرية، في مزيج أدبي وفلسفي يُسائل التاريخ من قلب الجرح، ويحاول حفظ ذاكرة غزة من الغرق في الصمت والنسيان. وهو بذلك يراهن على الثقافة كرافعة للمعنى، لا كترف لغوي.
يتضمن “أصداء الطوفان”، الصادر مؤخرًا عن مؤسسة أفرا للدراسات والأبحاث، حوارات مع مجموعة من الكتاب والمثقفين من فلسطين والعالم العربي وأسبانيا، عايشوا المأساة أو تأملوها عن كثب، وعبروا عن عواقب الكارثة بشكل فوري، لا فقط للمأساة الفلسطينية، بل أيضاً لخراب الضمير الإنساني.
أما القسم التحليلي، فيقدم مقالات عميقة تتجاوز سياق ما بعد 7 أكتوبر بتشريح نقدي للتخلي عن السياسي العربي وآلياته التلاعبية الإعلامية، واستراتيجيات الإخضاع النفسي التي تتواطأ غالباً مع الخطاب الغربي السائد.
وفي الجانب الإبداعي من الورقة، نقرأ نصوصاً وقصائد كتبت في لحظة احتراق الداخل الفلسطيني، تكشف عن البعد الروحي للمقاومة، حيث يتحول الحرف إلى نوع من التطهير الجمعي، وحيث يعاد للإنسان الفلسطيني اسمه ووجهه وصوته.
الكاتب “عبد الحي كريط” الذي يشغل منصب مدير النشر بجريدة موقع أنباء إكسبريس، المعروف بإسهاماته النوعية في النقد الثقافي والحوار الفكري بين الضفاف المتوسطية، يؤكد بهذا العمل امتداد مشروعه في مساءلة الوعي العربي من الداخل، وهو الذي سبق له أن أصدر مؤلفات مثل “مدارات ثقافية”.. الشمس تشرق من المغرب” و”نوافذ حوارية في الأدب الإسباني”، حيث يلتقي التحليل العميق بالأسلوب المتماسك.
في مقدمة الكتاب، يكتب كريط “لا أكتب من موقع الراوي المحايد، بل من موضع الشاهد المنكسر”.
جاعلا من الكتاب منصة للبوح الجماعي، ومن القارئ طرفاً أصيلاً في التوثيق لا مجرد متلق.
“أصداء الطوفان” ليس مجرد عنوان، بل إشارة إلى ما تبقى من صدى حين يغيب الصوت، وإلى ما يمكن للكلمة أن تفعله حين تعجز الصواريخ عن إخضاع المعنى، إنه كتاب يحاجج الذاكرة العربية، ويضع الثقافة في موقعها الطبيعي، ساحة مواجهة، لا ملاذا للهروب.
كما أنه يمثل موقفاً حاداً وواضحاً، يضع القارئ أمام مرأته الأخلاقية، ويعيد ترتيب العلاقة بين الثقافة والمقاومة. ففي حضرته، تصبح الكلمة سلاحاً، وتصير القراءة فعلا من أفعال التذكير بأن غزة ليست هناك، بل هنا فينا، في الذاكرة والنبض، وأن الجرح الفلسطيني ليس خبراً بعيداً بل إحساسٌ يقيم فينا جميعاً.
ويمكن تصنيف هذا الكتاب على أنه عمل أدبي وفكري متكامل، في جمعه بين ما هو إبداعي وما هو فكري تحليلي ليستعرض الأهوال والبطولة، الهشاشة والصمود، ويطرح تساؤلات إنسانية عميقة فوق حدود المكان والزمان عن الصوت الفلسطيني الذي يقاوم من أجل الحياة، وعن غزة التي تنبعث من الشفق وتتحدى الوضع المأساوي، إذ يأتي هذا الكتاب ليكون إضافة نوعية في الأدب المقاوم، وتوثيقاً ناثراً وموجعاً لما جرى ويجري في زمن الانكسار.
ومن المرتقب أن يعرض هذا العمل في عدد من المعارض العربية خلال الموسم الثقافي القادم، ليأخذ مكانه وسط إنتاج فكري متزايد، يعيد تموضع قضية فلسطينية في قلب الوجدان العربي، لا في هامش الأخبار.

قد يعجبك ايضا