شهدت السياسة العربية في العقود الأخيرة مسارين متعاكسين، أحدهما اندفع نحو الثورة بحثًا عن التغيير والكرامة والعدالة، والآخر سُحب نحو الترويض من قبل أنظمة محلية وقوى خارجية سعت لتدجين الإرادة الشعبية وحرفها عن مسارها الطبيعي.
الثورات التي انطلقت بشعارات نبيلة وجدت نفسها سريعًا في مواجهة آلات قمع ممنهجة وأجندات خارجية تسعى لتحويل موجة التغيير إلى فوضى أو صفقات فشلت الكثير من هذه الثورات لم يكن لأن الشعوب لم تكن جاهزة، بل لأن منظومة الاستبداد كانت أعمق مما تصوره البعض، ولأن المشروع البديل لم يكن واضحًا ولا مدعومًا برؤية متماسكة.
وفي المقابل، نجحت بعض الأنظمة في إعادة السيطرة من خلال أدوات ناعمة وخشنة، مزجت بين الخطاب الإعلامي والخوف الأمني، وبين الوعود بالإصلاح والتخويف من البديل هذا ما نسميه “الترويض السياسي” حيث يتم احتواء الحراك الشعبي بدلاً عن مواجهته، عبر تطويع الوعي الجمعي أو تمزيقه.
التحول الحقيقي لن يكون في تغيير نظام معين، بل في بناء وعي مقاوم ومشروع وطني جامع يملك أدوات الاستمرار فما بعد الثورة لا يقل أهمية عن لحظتها الأولى، والترويض لا يُهزم إلا بإرادة متيقظة تمتلك القدرة على الفرز والصبر والرؤية.
تجربة اليمن تمثل نموذجًا مختلفًا في مسار تحولات السياسة العربية فقد خرج الشعب اليمني من واقع مرير من الفساد والوصاية الخارجية والتبعية للقوى الإقليمية والدولية التي سيطرت على القرار السياسي والاقتصادي لعقود طويلة.
ثورة (21) سبتمبر لم تكن مجرد انتفاضة لحظية بل جاءت نتيجة تراكم طويل من الغضب الشعبي والرغبة الجادة في استعادة السيادة الوطنية كانت ثورة لها مشروع واضح هدفه التحرر من الوصاية الخارجية وبناء قرار سياسي مستقل يستجيب لتطلعات الشعب اليمني.
نجاح هذه الثورة لم يكن في إسقاط حكومة أو تغيير وجوه بل في كسر منظومة التبعية التي ظلت تتحكم بمصير البلاد لعقود فالشعب الذي خرج إلى الساحات لم يعد يرضى بأن يُحكم من الخارج أو أن يُدار عبر السفارات بل فرض إرادته وكتب صفحة جديدة في التاريخ اليمني.
التجربة اليمنية أثبتت أن الوعي الشعبي حين يقترن بقيادة ثابتة ومشروع تحرري يمكنه أن يصمد أمام أعتى التحديات ورغم الحصار والحرب ومحاولات الإخضاع استمرت الثورة في تثبيت وجودها وترسيخ مشروعها الوطني لتصبح اليوم نموذجًا للصمود والسيادة.
في سياق تحولات السياسة العربية كانت اليمن من القلائل الذين لم تُروّضهم أدوات المال والإعلام ولا حملات التشويه لأن الثورة فيها كانت شعبية الجذر علوية القيادة واضحة الهدف وتمسكت بمبادئها دون أن تساوم عليها.
Prev Post
Next Post