«قبائل 48» سرقت أحلامنا.. والفئران أجهزت على ما تبقى


حوار/عبدالحليم سيف –

عشنا طفولة معذبة في مدينة خلف الأسوار المغلقة

< «قبائل 48» سرقت أحلامنا.. والفئران أجهزت على ما تبقى < لم أعرف وحشية الإمام أحمد إلا مع نهب صنعاء < عندما قال لنا جمال جميل « أنا في اليمن من أجلكم « أعدموه < السائلة أيام الأمطار ولعبة كرة القدم في «المتوسطة» متنفسنا الوحيد
< «معارف الإمام» رفضت ضم اسمي لبعثة بني سويف فوجدت الأمل في الصومال
< رابطة الطلبة اليمنيين في القاهرة أفشلت مشروع الاتحاد المزيف الأستاذ محمد حسين السنيني قصة طويلة وشاقة تحكي فصولا من حياة عاشها جيل المعاناة والتضحية منذ فتح عينيه على واقع أدكن وقاس ومتخلف في زمن الإمام.. بيد أنه رفض الاستسلام لحياة العذاب وسياسة الذل والعبودية والجهل والاستبداد ونهج التميز بين أبناء الحارة الواحدة والوطن الواحد .. شق طريقه بمفرده وهو لم يتجاوز بعد سن الخامسة عشرة وذلك بتشجيع من أخيه الأكبر فيمم وجهه شطر عدن ومنها إلى الصومال بحثاٍ عن العلم الذي افتقده في وطنه .
وبعد رحلة شاقة حط رحاله في بني سويف درس الاعدادية والثانوية واقترب من رموز الحركة الوطنية اليمنية مشاركاٍ في الحياة السياسية والثقافية وتعلق بالصحافة التي قادته إلى المعهد العالي للإعلام بالقاهرة ليعود إلى الوطن بعد تسعة أشهر من قيام ثورة سبتمبر ليبدأ مشواره في حقل الإعلام الذي امتد أربعين عاماٍ متنقلاٍ بين إذاعة صنعاء وتعز وصحيفتي الثورة والجمهورية.
وعندما ذهبت إلى منزله في أبريل المنصرم في محاولة جديدة لإقناعه بإجراء حوار يروي لنا ذكرياته وتجربته المهنية وجدته كما تركته أخر مرة قبل عام ونصف عازفاٍ عن الحديث قال: « عن أي «تجربة» .. خلاص كانت تلك صفحة من الماضي … ثم ما الفائدة عملت وغير من الزملاء من رؤساء تحرير في ظروف غير ظروف اليوم ومع ذلك أخلصوا للمهنة منهم من توفاه الله ولم يحصل على الكفن ومنهم من غادر هذه الحياة دون أن يترك لأولاده غرفة واحدة ومن تبقى من الأحياء يقبعون في زاوية النسيان دون أن يتذكرهم أحد..» قلت له: «أستاذ محمد أشاطرك ما قلته ولكن وكما تعلمنا أن الصحفيين هم طليعة الأمة وعليهم أن لا يستسلموا ويظلون حاملي أقلامهم حتى آخر يوم في حياتهم والصحفي ينبغي عليه أن لا ييأس مهما كانت قسوة الظروف ..» قال: «ما قلته ينطبق على دول تعترف بالصحافة وتحترم الصحفيين وتوفر لهم حياة كريمة».. عدت أقول له:» إن غياب الوفاء والتكريم للصحفيين ومنهم الرعيل الأول وجيل الوسط يعود إلى جملة أسباب منها الصمت الذي ألتزم به الصحفيون الحقيقيون فقد أعطوا الفرصة لمن أصواتهم عالية في الستينات والسبعينات.. واسمح لي أن أقول لك أن كثيرين من شباب الصحفيين لا يعرفون أسماء الصحافيين ورؤساء التحرير إلا ما ندر وأعرف أنكم أحد الرواد الذين عملوا وأخلصوا للمهنة وسبب ذلك الجهل يعود إلى أنكم لا تريدون أن تقدموا تجربتكم لوضعها أمام شباب اليوم وذلك من باب التواصل بين الأجيال .. إذ خير في خلف لا يعترف بسلفه .
وعند هذه النقطة وجدت الأستاذ محمد السنيني لأول مرة يبتسم ويهز رأسه وكأنه يوافقني على ما قلت فوضع نظارته الطبية على عينيه.. وذهب إلى مكتبته وعاد بظروف بنية اللون وألبوم الصور من الحجم الكبير.. فوضعها أمامي.. ثم قال: «الإجابة على كل ما تريد معرفته عن تجربتي تجدها في ما تبقى لدي من أوراق شخصية وصحف وأكثر في الصور الفتوغرافية .. فخذها معك لتصويرها ونلتقي في الأيام القادمة « ومساء ذلك اليوم ظللت ساهراٍ مع تلكم الصور التي كانت تقفز بين أصابعي وتخرج.. صور.. صور كثيرة لأشخاص وأماكن ومدن .. وجدتني مشدوداٍ للقديمة منها أتأمل وجوه أصحابها وماذا يلبسون أنها صور تذكارية التقطت في فترات مختلفة بين عامي 1953 – 1998م منها تجمع محمد حسين السنيني مع زملائه من رفاق الطفولة والصبا والشباب في صنعاء والصومال والقاهرة وبني سويف وأخرى مع زملائه في العمل الإعلامي في صنعاء وتعز وأخرى لرحلاته الخارجية مع زملاء ومسئولين.. وبعد يومين عدت إليه بمشروع آخر وهو أجرى حواراٍ عميقاٍ لأن الصور وصاحبها تحكي تفاصيل حياة عامة في الغالب.. ومن هناء امتد اللقاء لساعات وأيام كنت أبحر معه في ذكريات هذا الأستاذ الكبير الهادئ الذي وجدته كما وصفه شيخ الصحافيين اليمنيين شفاه الله في عدد الجمهورية يوم 26/7/1983م حين قال نصاٍ: « لا يمكن لامرئ مثلي إلا أن يستحي من رئيس تحرير صحيفة الجمهورية السابق محمد السنيني.. ذلكم أنه كان عف الضمير .. نقي السريرة.. طيب العشرة. ولقد عاصرته صحفياٍ منذ قيام الثورة السبتمبرية وحسب وإنما جريدة الثورة ذاتها.. وعاصرته مزاملاٍ في أختها –الجمهورية- التي تصر على الصدور من تعز..» ولاشك أن القارئ يريد معرفة المزيد عن تجربة هذا الأستاذ وإلى الغوص في أعماقها.. وهاكم الجزء الأول.

حوار/عبدالحليم سيف

في زمن الحزن
* قلت: لنبدأ أستاذ محمد حسين السنيني.. من الولادة أو النشأة وتأثيرها على مسيرة حياتك¿
– بعد لحظة تأمل وكأنه يسترجع شريط الزمن الأدكن.
– قال: ولدت في حي باب السِباح احد أشهر أبواب صنعاء القديمة وعندما بدأت أعي ما يجري حولي وجدتْ نفسي يتيماٍ فقد عرفتْ ان أبي لحق بأمي إلى رحاب الخالق بعد أشهر قليلة من وفاتها وكنت في الثالثة من العمر.. لم أعرفهما وحرمت من نعمة حنان الأبوين رحمة الله عليهما..
وبعد توقف يستطرد: لكن من حسن حظي أن الله سخر لي شقيقي علي حسين السنيني (أصبح لواءاٍ في الجيش اليمني بعد ثورة سبتمبر 1962) فهو الذي تولى رعايتي .. فكان نعúمú الأخ والصديق والأب الذي أخذ بيدي نحو عالم المعرفة والنور والحرية في زمن كان اليمن يغرق في بحر الظلم والظلام والعبودية والاستبداد والعزلة.
حياة بلا طفولة
* قلت له: حديثك الحزين يجعلني أسألك عما تتذكره من صور الطفولة¿
– قال: عن أية صور تريدني أن أحدثك عنها.. باختصار.. أنا من جيل عاش خارج الطفولة المعروفة اليوم حتى الحياة بمعناها الإنساني لم نعرفها.. أيامنا كانت غيرة دبرة ضنكة موحشة.. كْنِا حفاة وأنصاف عراة..
تصور.. اذا أصيب احدهم بجرح بسيط يتقيح ويتعفن فلا خدمات صحية ولا طبية بالمفهوم العصري.. لم نعرف وسائل الألعاب التي يحتاجها الطفل لتنشئته وتربيته على أسس سليمة.
– يصمت مرة أخرى ثم يضحك بسخرية قبل ان يواصل حديثه :
كنا نلعب في الطرق الترابية والسوائل المليئة بالأوساخ.. أتذكر أنني كنت مع زملائي بالحارة نمارس الشقاوة في موسم الأمطار.. فعندما تتدفق السيول من الجبال المحيطة بصنعاء تشل الحركة في السائلة بحيث يصعب اجتيازها إلا بالعوم فيها او برفع أطراف الملابس إلى الخصر لكي تصل إلى الضفة الأخرى من السائلة وأنت مليء بالخلب.
صورة صنعاء
* قلت: هل لك ان تصف لجيل اليوم صورة صنعاء المدينة قبل ستة عقود¿
– قال: قد لا يعرف كثير من اليمنيين وخاصة من الشباب.. ان صنعاء العاصمة اليوم بكل مظاهرها العمرانية المكتظة بالسكان من مختلف مناطق اليمن.. وشوارعها المسفلتة وحركة السيارات.. أقول ما نراه اليوم كان قبل خمسين عاما معدوماٍ.. الحياة كما سبق وقلت كانت قاسية جداٍ والمدينة متخلفة مع أنها أقدم مدن في التاريخ.. انها عاصمة شوارعها ترابية.. السيارات نادرة عدا تلك التي يملكها الإمام يحيى.. وسائل المواصلات الحمير والجمال والبغال.. المحلات التجارية على قلتها بضائعها تأتي من عدن مثل الصابون والزيت والفوانيس ومكائن وإبر الخياطة إلى السكر والشاهي وحتى القاز.
ليل خلف الأسوار
* وكيف كان ليل صنعاء¿
– ظلام في ظلام.. ما ان يغيب قرص الشمس حتى يدوي صوت النفير استعداداٍ لإغلاق أبواب صنعاء السبعة بعد العشاء لتغرق المباني والناس والحيوانات بالظلام.. لا كهرباء.. الوسيلة الوحيدة للإضاءة كانت الدِبة والنوارة والفانوس بعدها عرفت صنعاء الإتريك (يقصد البترومكس) وهذا يملكه أعوان الإمام وأغنياء صنعاء.

* قلت: وأين يذهب سكان المدينة¿
– يلزموا بيوتهم لا وجود لوسائل الترفيه مثل السينما فهي محرمة.. والمسرح معدوم.. والتلفزيون غير موجود والإذاعة لم تدخل إلا مؤخراٍ (عام 1955 تقريباٍ) لا مكتبات ولا صحف فهذه من المحظورات.
هذه صورة مصغرة لعاصمة اليمن التاريخية العريقة بجمال فنونها ومعمارها.. المدينة التي عرفت ناطحات السحاب قبل أن تعرفها أمريكا وأوروبا.. صنعاء الغنية بتراثها لكنها الفقيرة من ابسط وسائل الحياة العصرية.. مثل المدارس والمستشفيات والجامعات والنوادي الثقافية والمقاهي الشعبية والحدائق العامة.

تعليم متخلف
* قلت له: حدثنا عن تعليمك الأولى.. كيف كان وأين¿
– قال: سبق وأخبرتك أن أخي هو من رباني.. فقد أحب التعليم فكان على الدوام يشجع أبناء حارتنا على طلب العلم.. وبرغم مرور كل هذه السنوات مازالت كلماته ترن في أذني وهو يقول لنا:» لا مخرج ولا مستقبل لنا ولكم ولليمن إلاِ بالعلم..» ولهذا فقد التحقتْ بمدرسة الإصلاح الواقعة بجانب المتحف الوطني حالياٍ وعمري لم يتجاوز بعد الخامسة.. وبالطبع التعليم لم يكن متقدماٍ.. لا وسائل تعليمية ولا مناهج دراسية تقدم للتلاميذ المعرفة.. تعلمنا الخط والحساب وشروط الوضوء والصلاة وقبل ذلك القرآن الكريم.
المتوسطة أفضل
* وسألته: ماذا بعد الإصلاح المدرسة¿
– أجاب :كان أخي طموحاٍ يريدني ان أتعلم بسرعة وأقفز من الإصلاح إلى المدرسة المتوسطة لكي يبعثني إلى الخارج لإكمال تعليمي.. فكنت أدرس في وقت واحد في الصف الثالث ابتدائي وأذاكر ما يتلقاه التلميذ في الصفين الرابع والخامس. وبالمناسبة ساعدني في ذلك صديق الطفولة علي لطف الثور وزميل آخر ** من أسرة عبدالوهاب نعمان وكذا الأستاذين حمود العنسي ومحمد زعاج وهؤلاء درسوني.. علموني التاريخ والانجليزي والرياضيات.. وبذلك تمكنت خلال زمن قصير ان أنهي صف خامس في الإصلاح والتحق بالمدرسة المتوسطة الواقعة أمام مجلس النواب حالياٍ بشارع 26 سبتمبر وتلك المدرسة خربوها وجعلوا من ساحتها موقفاٍ للسيارات.
طبعاٍ في المتوسطة كان التعليم أفضل بمقياس تلك الأيام.. المواد التعليمية التي يدرسها الطلاب متعددة مثل : التربية الإسلامية واللغة العربية والرياضيات والجغرافيا والتاريخ.. إلى جانب وجود أنشطة ثقافية محدودة وفريق لكرة القدم.. وكان العام الدراسي يختتم بإقامة مسابقات ثقافية ورياضية .. وهذه الأنشطة على ندرتها كانت المتنفس الوحيد في صنعاء خلال الخمسينيات.
زملاء وأساتذة
* قلت له: ومن هم زملاؤك في مدارس صنعاء¿
أخذ الأستاذ السنيني تلك الصور ليحدثني عنها وهو يشير إلى أسماء زملائه.. منهم مازال حياٍ وآخرون توافهم الله مايجمع بينهم أنهم أصبحوا من كبار المسؤولين في الدولة ومن أشهر الأطباء والصحافيين والعسكريين والوزراء منهم: علي لطف الثور عبدالملك محمد الزهيري عبدالباري صالح إبراهيم محمد كابع أحد أبناء الأستاذ عبدالوهاب نعمان محمد محمد الحوثي محمد الشراعي محمد الجرموزي محمد الكستبان عبدالرحمن العنسي محمد اليدومي أحمد الحداني أحمد عبدالله الكبسي نسيت أسماءهم فليعذروني.
* قلت له: وهل تتذكر أساتذتك.. ومن كان لهم تأثير على أبناء جيلك¿
– قال: طبعاٍ لم أنسهم.. وصورهم محفورة في ذاكرتي.. ومن أساتذتي الذين أكن لهم العرفان والفضل الأب الفاضل الأستاذ علي محمد دلال والذي مازال حياٍ يرزق وأدعو له بالصحة وطول العمر فعلي يديه ختمت القرآن الكريم وأنا في سن العاشرة من العمر ومن أساتذتي الكرام في المتوسطة.. الأستاذ عبدالله الذماري مدير المدرسة ومدرس الجغرافية والأستاذ محمد اليريمي مدرس التاريخ والأستاذ احمد الهبل.
أيام مقتل الإمام
* قلت له: اسمح لي بأن أعود بذاكرتك إلى 1948م وهو العام الذي شهدت فيه صنعاء ثورة أو حركة ثم نهب ومذابح.. فماذا تتذكر¿
– قال : بالرغم من صغر سني إلاِ أنني ما زلت أتذكر بعض تفاصيل ما حدث.. يوم قتل الإمام يحيى كنت في المدرسة كانت الحركة عادية ثم تغير كل شيء الخوف يدب حولنا.. آباء يأتون إلى المدرسة بسرعة فيصطحبون أبناءهم ويذهبون بهم إلى بيوتهم.. صمت رهيب وحالة وجوم لا تستطيع أن تسأل الذي يجلس بجانبك عما يجري.. فقط عليك ان تسمع وان تنفذ ما تؤمر به.. فجأة أرى أخي أمامي.. وحتى اللحظة مازلت أتذكر صوته وهو يقول:» هيا قم نضوي البيت» طبعا أنا اتخضيت (خفت).. وفي الطريق إلى بيتنا الواقع أمام دار الشكر الذي أصبح المتحف الوطني بعد ثورة 26 سبتمبر.. كنت أسير إلى جوار أخي في ميدان شرارة (ميدان التحرير) وأرى الناس يمشون بسرعة.. البعض يكلم نفسه حتى لا يرد السلام عليك.
وعند وصولنا البيت فوجئت بأخي يقول « أن اليوم قتلوا الإمام الشهيد كما يصفونه حينذاك (في حزيز يوم 17 فبراير 1948) عاش سكان صنعاء ليلتهم وما بعدها في حالة رعب وخوف من المجهول.. وفي اليوم التالي قام عسكر الإمام بدعوة سكان صنعاء للخروج لتشييع جثمان الإمام يحيى ودفنوه في مسجد الرحمة الواقع في شارع 26 سبتمبر حالياٍ.
الجهل بالإمام
* وماذا جرى في اليوم التالي من مقتل الإمام يحيى¿
– في الأيام التالية كان المدرسون يصطحبوننا نحن تلاميذ المدارس إلى قبر الإمام يحيى لقراءة الفاتحة.. يومها لم نكن نعرف من هو الإمام وماذا كان يفعل.. كنا نلتقط من الكبار بعض العبارات كالحديث عن إمام جديد اسمه الوزير (يقصد عبدالله الوزير) وكان البعض يردد بدون دراية ما كان يشيعه أعوان الإمام بأن الذين قتلوا الإمام الطاعن في السن هم « الدستوريون الذين اختصروا القرآن» وهي ذات الدعاية التي كان الإمام يحيى وابنه أحمد يصفون بها الأحرار اليمنيين بقيادة الأستاذين أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري ورفاقهم الذين اتخذوا من عدن مركزاٍ لهم لمعارضة الإمام والمطالبة بالتغيير والإصلاح.
ظلت الحالة نفسها.. لا جديد في حياة صنعاء.. لا تغيير حدث.. لكن الأمور سارت بشكل سريع.. نحو الانحدار فقد تعرضت صنعاء لأبشع هجمة بربرية ووحشية من قبل القبائل والتفاصيل يعرفها الجميع وكتب عنها في الصحف والكتب كثيراٍ.
نكبة صنعاء
* قلت له: ولكني أريد منك وصف ما رأيته من أعمال نهب صنعاء¿
– قال: لم أعد أتذكر اليوم والساعة.. لكن ما أتذكره أن خبراٍ سرى بين السكان صنعاء مفاده أن القبائل ستدخل المدينة لنهب البيوت.. حالة من الخوف والرعب عمت أحياء المدينة ..كنتْ في حوش بيتنا الكائن بالقرب من مكتب القائد العسكري العراقي البطل جمال جميل الذي أعدموه فيما بعد.. داهم بيتنا قبائل مسلحة غريبة الأطوار وحشية السلوك كانوا يصوبون بنادقهم الجرمان وزاكي كرام نحو أخي الذي قال لهم: نحن أيتام فقراء ليس لدينا ما يستحق ان تأخذوه.. إلاِ فرشان مقطعة» لم يقتنعوا دخلوا الغرف بحثوا عن أي شيء ولم يحصلوا على ما ينهبونه فخرجوا إلى منزل آخر.. كانوا ينتقلون من بيت إلى بيت ..وأتذكر أن أخي عندما سمع ان القبائل هبت لنهب صنعاء أخذ بعض أغراضنا المهمة وألقى بها في بئر خالية من المياه موجود داخل الحوش وبعد أيام ذهب أخي لإخراجها فلم يجد سوى بقايا آثار لها لأن الفيران أكلوا ما أخفيناه .
وحشية غريبة
* وسألته: وما الذي شاهدته بعد ذلك¿
– قال: مسلسل النهب الفظيع لم ينته.. كنا نحن الأطفال نسير بعدهم.. نرقب من بعيد تصرفاتهم غير الإنسانية.. كانوا يبثوا الرعب في قلوب النساء والأطفال والعجائز والشيوخ.. كسروا الأبواب خلعوا النوافذ أخذوا كل شيء ذهب النسوان الأدوات المنزلية كانوا يتصرفون مثل الجراد الصحراوي .. بالمناسبة ذكرتْ أمراٍ آخر هو أن الأغنياء والمقربين من الإمام كانوا قد أمنوا بيوتهم بحراسة من القبائل.. أما معظم السكان وكانوا ضحية سهلة للسلب والقتل وهتك الأعراض.
وأضاف السنيني: تصور أن من نهبوا صنعاء كانوا ينقلون المسروقات من البيوت إلى مسجد قبة المتوكل حيث حولوه إلى مخزن للمنهوبات من خزائن وأكياس ومدهنة (علب سمن وعسل) ودقيق وأثاث ودجاج وبيض.. ذهب أخي إلى المسجد واشترى منهم مدهنة سمن وأخرى عسل بلدي.. لم يعرف حق من.. يبدو أنها من بيت أحد الأغنياء.. أعطى الجيران جزءا منها وأكلنا الباقي.. لأول مرة في حياتي ذقت طعم العسل (يضحك).
المهم ما جرى لصنعاء وأهلها سنة 1948 كان رهيباٍ.. مشاهد مخيفة حولها الإمام احمد إلى كابوس حي في كل بيت.. لم تجر الجريمة أمام كاميرات التلفزة والمصورين وعيون الصحافيين.. لأنه ما بش منها في اليمن في تلك الأيام.. ورغم ذلك فهي محفورة في عقل وقلب كل من عاش فصولها المأساوية..
أنه جمال جميل
* أستاذ محمد .. قلت أن منزلكم كان بجوار مكتب الشهيد جمال جميل في باب السباح.. هل تتذكر شيئاٍ من ملامح الرجل¿
– قال: نعم .. فضول الأطفال كان يقودنا إلى الجبى سقف المنزل.. نشاهد الرجل الذي كان قبل وبعد مقتل الإمام يحيى أكثر من يملأ صنعاء ضجيجاٍ وحيوية ونشاطاٍ وحركة وهو يرتدي بدلته العسكرية وطربوشه المميز.. وعندما يرانا كان يبتسم لنا بود وكأنه يريد أن يقول.. «أنا هنا من أجل مستقبلكم ونذرت حياتي لكم».
ويواصل:
لكن الأكثر حزناٍ كان يوم إعدامه جاء عكفة الإمام لمنادة الأهالي للخروج إلى ميدان شرارة الذي أصبح ميدان التحرير بعد الثورة.. لم يذهب في البداية إلاِ القليل من الناس ثم عاد العسكر لدعوة الأهالي بنبرة بها تهديد ووعيد لهم.. خرج الأهالي إلى ميدان شراره ببطء.. ثم جاء عسكر الإمام بالبطل جمال جميل وقد كبلوا يديه ورجليه بالسلاسل ومع ذلك كان شامخ الرأس.. أعدموه وسط صمت رهيب.. وحدهم أبناء الإمام كانوا يهللون.. اما بقية الأهالي الكبار والشيوخ والشباب والنساء وحتى الأطفال كانوا في حالة وجوم عادوا إلى بيوتهم منكسرين وهم اشد حزناٍ على البطل جميل جمال .. المعروف ان هذا الحادث زاد من الكراهية للإمام أحمد.. الذي أباح للقبائل نهب صنعاء وترويعها كما ساق الأحرار وزعماء الحركة الانقلابية إلى حجة كالمواشي.. أعدم منهم من أعدم وقاس غيرهم عذابات السجن لكن دماءهم الطاهرة ومعاناتهم القاسية لم تذهب هدراٍ فقد رحل الإمام وبقي الشعب حياٍ بفعل تضحيات أبنائه الشهداء ومنهم بالطبع جمال جميل العراقي.
بعثة بني سويف
* قلت: أستاذ محمد السنيني.. لو عدنا بالحديث إلى تفاصيل رحلتك نحو مصر.. فكيف كانت ومتى¿
– قال: القصة طويلة.
* قلت: احكي لنا باختصار
– قال: كان ذلك في منتصف الخمسينيات عندما قرر الإمام احمد حميد الدين إرسال بعثة طلابية للدراسة في مصر (ربما يقصد بعثة 1954 الأخيرة وضمت 31 طالباٍ).. ذهب أخي إلى وزارة المعارف بصنعاء فطلب ضم اسمي إلى قائمة المبعوثين.. لكن الأستاذ احمد الشمام مدير المعارف يومذاك رفض.. وقال لأخي: « هذا.. الذي هو أنا مابش له مكان في البعثة عاده صغير خليه يقرأ في صنعاء..» عرفت فيما بعد أن ما قاله الشمام ليس صحيحاٍ.. فالمنح للخارج كانت مقتصرة على أبناء المقربين من الإمام.. عدا القلة جداٍ من المحظوظين من أولاد الفئات الأخرى بحسب سياسة التمييز العنصري بين البشر في العهد الإمامي البائد.

الأمل بالصومال
* قلت له: وماذا فعلت¿
– قال: سافرت الصومال
* قلت: وما الذي ذهب بك إلى الصومال¿
– قال: وهذه يا عبدالحليم حكاية طويلة.
قلت: اريد ان أعرف بعضاٍ من تفاصيلها¿
– قال مرة أخرى أعود للحديث عن فضل أخي.. والذي شعر بأن زملائي سافروا إلى مصر وبقيت وحيداٍ.. لم يهدأ.. كتب رسالة إلى صديق له وكان جاراٍ لنا هو الأستاذ والأب الفاضل القاضي محمد الزهيري وكان يعمل سفيراٍ للإمام في مقديشو وقتذاك طلب منه بصفته شخصية دبلوماسية معروفة أن يكتب رسالة إلى الرئيس جمال عبدالناصر يرجوا منه الموافقة على إعطائنا منح دراسية لي ولابنه عبدالملك وأخيه عبدالحميد وهما من زملائي في المدرسة بصنعاء قبل أن يذهبا إلى الصومال.
رد الوالد الزهيري رحمة الله عليه لم يتأخر فكتب لأخي: «أرسلوا العزي إلى عندنا».. جهزني شقيقي للسفر.. وأخذت هدايا من صنعاء من حق تلك الأيام.. زبيب ولوز وحلبة وبسباس وكذا مسحقة.. وهذه بحسب طلبه.
رحلة شاقة
* قلت:وكيف سافرت¿
– قال: عن طريق عدن.. لأنه لم يكن ممكنا السفر من صنعاء بالطائرة او عبر الباخرة من الحديدة.. البلد معزول عن العالم الخارجي.
* قلت له: ألم تشعر بالخوف وأنت تسافر لوحدك¿
– قال: بالعكس كنت أطير من الفرح.. شعرت بالاطمئنان أكثر من إحساسي بالخوف.
* قلت: وما الذي فكرت به ليلة سفرك¿
– قال: لم أعد أتذكر اليوم ولا الشهر.. ما أتذكره أنني عشية سفري لم أنم بقيت ساهراٍ بانتظار ساعة الرحيل من صنعاء إلى عالم جديد فيه حياة وحرية.. لم أكن اعرف من عدن أو مقديشو إلاِ الاسم.. المهم في الصباح الباكر وجدت نفسي في بابور كبير لنقل البضائع راكباٍ بجوار الوالد الفاضل محمد المترب وكان يعمل بالتجارة بمدينة التواهي عنده استديو للتصوير.
ويضيف بقوله: تصور عشرة أيام استغرقناها في الرحلة من صنعاء إلى عدن مشينا إلى ذمار القريبة من صنعاء (120 كيلومتراٍ) لمدة يوم ونصف.. فالطريق جبلية ووعرة.. وأتذكر انه صادف سفرنا أيام مطر.. كنْا بين ساعة وأخرى نتوقف لننتظر من يمر من الناس ليساعدنا على إخراج السيارة من بين الوحل.. ومع ذلك كنت سعيداٍ.. لأنني تركت خلفي البؤس والحرمان.
طريق العذاب
* وما الذي شد انتباهك خلال رحلتك إلى عدن¿
– أشياء كثيرة.. كنت أطيل التأمل إلى كل شيء أصادفه على الطريق أو نتوقف في سوق أو مدينة.. رأيت من المشاهد ما يفوق وصفها.. تخلف مريع في كل شبر.. رأيت الناس أشبه بالمومياء وهم يسيرون ببطء خلف البغال والحمير والجمال المحملة بالحطب والحب والبضائع تراهم حفاة وأنصاف عْراة ومثلهم عكفة الإمام ببنادقهم التي يرهبون بها الرعية.. وعندما يأتي الليل كانت القرى والمنازل التي يتصادف توقفنا فيها مثل: ذمار ويريم وإب وتعز والراهدة تقبع في ظلام دامس.. أما نباح الكلاب الجائعة فحدث ولا حرج.. هذه هي طريق عذابات اليمنيين في مملكة بيت حميد الدين.
ويتابع السنيني حديثه:
توقفنا في جمرك الراهدة.. هنا رأيت عشرات البوابير الكبيرة (يقصد سيارات النقل) المحملة بالبضائع القادمة من عدن إلى مدن تعز وصنعاء وإب والحديدة وذمار وحتى صعدة .. كان الجمرك يومها يختزل المشهد اليمني.. هياكل عظمية تتحرك ترى عكفة ببنادقهم يحومون حول السيارات التي تبقى أياماٍ في الجمرك بسبب تعرض أصحابها للمضايقات والنهب كما قيل لي أما الراهدة في تلك الأيام لا وجود لها كمدينة أو قرية بالرغم من أن أهم جمرك في اليمن موجود فيها.
تمضي رحلتنا انا والوالد المترب نجتاز الشريجة ثم كرش إلى الشقعة ثم الوهط.. أراض صحراوية.. الجو كان حاراٍ نوعاٍ ما نبيت في لحج الخضيرة وفي صباح اليوم التالي تتحرك بنا سيارة.. نمر عبر الحسيني حيث الخضرة والجمال وأشجار الموز والمياه العذبة باتجاه عدن..اسمع الوالد المترب يقول لي « هذه دار سعد» او « نمبر ستة» وهي نقطة تفتيش للقادمين من خارج عدن.. لحظات وندخل الشيخ عثمان ومنها إلى مدينة التواهي.. طوال الرحلة لم يسألنا احد من أنتم او إلى أين ذاهبون¿ أين بطائقكم أو جوازات سفركم¿
عدن الوحدوية
* قلت له: عدن.. كيف وجدتها في زيارتك الأولى لها¿
– قال: قضيت عشرة أيام في التواهي في منزل الوالد محمد المترب.. أخذني أصدقائي من أولاده ليعرفوني على معالم المدينة.. من التواهي إلى المعلا وعبر طريق العقبة إلى كريتر ثم توقفنا أمام قلعة صيرة .. عرفت فيما بعد أنها قلعة تاريخية ومن هذا المكان كان غزو الانجليز لعدن (بقيادة هنس عام 1839م) ومن ثم احتلالها وجعلها أهم قاعدة عسكرية لهم في الشرق الأوسط.. باختصار.. مازالت ذاكرتي مليئة بعشرات الصور والمشاهد التي عشتها في عدن.. عرفت البحر وأكلت الروتي لأول مرة.. ورأيت السفن الصغيرة والكبيرة ترسوا وتبحر في خليج عدن…
* بعد أن يتوقف برهة عن الكلام يعود ليروي لي حادثة طريفة هكذا:
– عندما كنت اسير مع اصدقائي في شوارع التواهي إذ بي أتوقف فجأة لكي أتأمل السيارة وهي تجري في الشارع.. اعتقدت أنها الوحيدة التي تذهب وتعود.. ومابشú غيرها كتلك التي في صنعاء.. وما نش داري ان عدن بها من السيارات الكبيرة والصغيرة خيرات (يضحك).
– أضاف السنيني : يوم ذهبت إلى عدن في نهاية 1954 تقريباْ كانت ترزح تحت حراب الاحتلال البريطاني ومع ذلك هناك أحزاب ونقابات وصحف وسينما وفن وكل سبل الحياة.. لفت نظري ان عدن مدينة مفتوحة على الجميع.. إلى جانب الآلاف من اليمنيين القادمين من شمال الوطن وما كان يسمى بالمحميات الشرقية والغربية.. ترى العين عشرات الوجوه من الصومال والهند والبهرة وغيرهم من الجنسيات الأخرى.
هذه عدن التي كانت تعيش تحت وطأة سياسة التفرقة البريطانية.. جسدت حقيقة وحدة اليمنيين وتطلعاتهم إلى الحرية والاستقلال وإزالة الظلم والاستبداد في الشمال والاستعمار في جنوب الوطن.
نحو مقديشو
* قلت استاذ محمد السنيني لو انتقلنا بالحديث إلى تفاصيل رحلتك إلى الصومال¿ فماذا عنها¿
– قال: أيام تواجدي في عدن مرت بسرعة.. حتى حانت لحظة سفري.. الوالد المترب تولى إجراءات الرحلة فقد بعث برقية إلى الوالد محمد الزهيري أخبره بموعد وصولي إلى مطار مقديشو.. ذهبت صباح ذات يوم إلى المطار ويسمونه المجراد.. أخذت مقعدي في الطائرة الإيطالية التي أقلعت بركابها نحو السماء .. كم هي جميلة تبدو عدن من الجو وأنا أراها عبر نافذه الطائرة.. شعرت بسعادة ما بعدها سعادة.. انتابني إحساس غريب وهو أن أبقى داخل الطائرة لساعات طويلة وهي تطير في الهواء.
* قلت له ضاحكاٍ.. وما الذي منعك يا أستاذ¿
– قال مبتسماٍ: المسافة القصيرة بين عدن ومقديشو أحبطتني.. لم يمض وقت طويل حتى هبطت «الايطالية» على أرض مطار مقديشو.. وما أن خرجت من الطائرة.. حتى رأيت الوالد الفاضل سعادة السفير محمد الزهيري واقفاٍ بجوار سلم الطائرة جاء بنفسه يستقبلني.. أنا الأغبر الأدبر القادم من صنعاء.. فأخذني بسيارته الفخمة من نوع «شفرليت» مابشú مثلها مع الإمام أحمد باتجاه مقديشو.

إلى المدرسة العربية
* وإلى أين ذهب بك السفير محمد الزهيري¿
– إلى منزله.. فقد استضافني عنده.. خصص لي غرفة مستقلة مزودة بتلفون ومكتب وسرير.. وكنت أعيش وآكل مع أسراته وابنه عبدالملك وأخيه عبدالحميد.. ذقت طعم البيتزا والمكرونة الإيطالية لأول مرة.. كانت الصومال (يقصد جنوبها) تحت الاحتلال الإيطالي.. ألحقني الوالد الزهيري بالمدرسة العربية.. المدرسون من مصر والمنهج أفضل.. تعودت على اللهجة المصرية..كنت بين يوم وآخر أعود وأسأل الوالد الزهيري عن موعد سفري إلى القاهرة.. كان يرد عليِ بلطف.. «لا تقلق يا عزي الرد لم يصل بعد.. أنت في بيتك وبين اهلك».
طالت مدة بقائي في مقديشو وأنا في عجلة من أمري للسفر إلى القاهرة وذات يوم قال لي الوالد السفير محمد الزهيري..»يبدو أن موافقة الرئيس عبدالناصر تحتاج إلى وقت.. وقد تأتي أخبار المنحة إلى صنعاء ولهذا اتفقت مع الأخ علي (يقصد علي السنيني) أن تعود إلى صنعاء لتنتظر الجواب وتسافر إلى القاهرة رأساٍ».
العودة إلى صنعاء
* بماذا شعرت¿
– طبعاٍ حزنت.. لم يكن لديِ من خيار إلاِ العودة إلى صنعاء عبر عدن..ولكن ببدلة وربطة عنق وحذاء نظيف ورأسي مكشوف.. كان الجيران يستغربون لمنظري.. كنت أسمع بعض النسوة يرددن «أنِ هذا العزي.. ما الذي غيره هكذا..» وكأني نزلت بالبرشوت من السماء.
* وماذا فعلت بعد عودتك من مقديشو إلى صنعاء¿
– مرت الأيام والأسابيع وأنا في حالة انتظار لأن يأتي رد بالموافقة على المنحة لكنه لم يأت.. فكتب شقيقي رسالة إلى الصديق العزيز علي لطف الثور الذي يدرس في بني سويف أيامها.. أخبره بأمر سفري إلى مصر للدراسة على حسابي.. وطلب منه فقط أن يساعدني في استقبالي وترتيب إجراءات الدراسة.. لم يتأخر رد الصديق على لطف فرحب بي وبتقديم ما يمكنه من مساعدة لصديق طفولته وابن حارته ومدينته.. وهكذا وجدت نفسي ومن جديد في رحلة طويلة وشاقة من صنعاء إلى عدن براٍ ومنها إلى ميناء قناة السويس عبر البحر.. لم يكن ممكنا السفر بالطائرة في تلك الأيام فتذكرة الطيران غالية جداٍ.. وسافرت في باخرة .. التقيت على متنها مسافرين من مختلف الجنسيات أغلبهم من اليمنيين من تعز وإب ورداع في طريقهم إلى مهاجرهم في أوروبا منهم كان حميد كشميم والد الملاكم نسيم الذي يقيم في لندن.

دموع الفرح ..والقاهرة
ويكمل الأستاذ السنيني وصف رحلته بإيجاز فيقول:
وصلت إلى قناة السويس بعد رحلة دامت ثلاثة أيام.. قضيت ليلة في أحد فنادقها الصغيرة.. وفي اليوم التالي كنت وحيداٍ داخل عربة قطار في طريقي إلى القاهرة قاصداٍ قريباٍ لي يدرس الثانوية العامة.. والذي لم يكن قد سبق لي وأن التقيت به او حتى عرفت ملامحه.. كل ما لديِ هو عنوانه فقط.. المهم أنني وصلت القاهرة كان الوقت على ما أتذكره عصراٍ.. استأجرت حنطوراٍ إلى بيت الطلبة الواقع في لا ضغلي أخرجت من جيبي العنوان ثم طرقت باب الغرفة.. وها أنا أخيراٍ أقف وجها لوجه أمام شاب وسيم.. قبل ان أسأله عن أمين.. إذا به يقفز قائلاٍ: «أنت محمد حسين السنيني خالي..» قلت له: نعم بشحمه ولحمه.. احتضنا بعضنا تعانقنا مطولاٍ وأجهشنا بالبكاء وسط مشهد مؤثر عاشه الطلبة.
* قلت له: ومن هو أمين.. قريبك¿
– قال: انه الدكتور أمين عبدالرحيم النعيمي طبيب الأطفال الشهير في تعز.. فهو أبن شقيقتي.. هل تصدق أنه كان في تعز التي تبعد عن صنعاء بنحو 260 كيلو متراٍ.. ولم التق به إلاِ في القاهرة وعلى بعد آلاف الأميال أية حياة عشناها.
* كيف رأيت القاهرة¿
– كل شيء فيها مدهش وعجيب ومبهر.. رأيت عالماٍ لم أجده في صنعاء.. مدينة فخمة يخترق وسطها النيل وعلى ضفتيه عمارات ومبان ومؤسسات وجسور وطرق وكبار وسكك حديد وترام وسينما ومسرح وملاه ومكتبات وحدائق وميادين وصحف وقبل ذلك بشر من مختلف الجنسيات.. وفي تلك الأيام كانت المدينة في يونيو 1957م تعيش عيد الجمهورية المصرية.
في بني سويف
* وما هي محطتك التالية¿
– قضيت ستة أيام في القاهرة حيث انتهى العزيز أمين عبدالرحيم من امتحاناته.. ثم رافقني إلى بني سويف قاصداٍ صديقي العزيز علي لطف الثور.. أمام بيت الطلبة أو مقر البعثة اليمنية كما يسمونها وقف الزملاء في الشارع لاستقبالي.. كان مشهداٍ مؤثراٍ وعاطفياٍ اختلطت فيه مشاعر الحزن بالفرح.. البعض من الزملاء كنت أعرفهم من صنعاء وآخرون أصبحوا مع الأيام أصدقاء.. أتذكر ان الزملاء انهالوا عليِ بالأسئلة من نوع:
كيف خرجت¿ وبواسطة من¿ وماذا عن الأوضاع¿ كيف الأهل¿ كيف فلان.. ما الجديد من أخبار البلاد ¿ كانوا يريدون معرفة كل شيء عن الوطن والأهل خاصة بعد أحداث فشل انقلاب الجيش في تعز سنة 55 وإعدام زعمائه.

* بماذا رديت¿
– أجبت على تساؤلاتهم بما أعرفه.. استخدمت نبرة التفاؤل والأمل.. قلت لهم ان الناس بدأوا يعون ما الذي ينفعهم وماذا يضرهم وقلت لهم ان سخطاٍ عاماٍ اتسع بعد انقلاب 55 والأيام القادمة قد تحمل الفرج.. صنعاء كما تركتموها.. لا جديد فيها يستحق الذكر وحدثتهم بعد ذلك عن تفاصيل سفري إلى الصومال عبر عدن.. وكما رويتها لك.

روح الزمالة
* ما الذي تغير في حياتك بعد أن حطيت رحالك في بني سويف في يونيو 1957م ¿
– أشياء كثيرة.. سكنت مع الزميل علي لطف في مسكن البعثة.. وكان الزملاء كرماء معي كنتْ أتناول معهم وجبات الغداء.. وأحياناٍ كانوا يفترقون لي من منحهم عندما يتأخر أخي في إرسال المصاريف من صنعاء.. التحقت بالمدرسة الإعدادية في بني سويف وأكملت الثانوية في القاهرة.
أيام وأسابيع وأشهر وسنوات جميلة وحياة مليئة بالأنشطة والخلافات بين الزملاء وذلك ليس غريباٍ في بيئة وبلد منفتح فيه صحافة وأحزاب وساسة ومثقفون..
ومن زملاء السنيني في بني سويف ذكر عدداٍ منهم.. ومن هؤلاء مع حفظ الالقاب: علي لطف الثور محمد الزرقة علي الشامي عبدالرحمن محمد الشرعي عبدالوهاب الزرقة احمد الكبسي يحيى عبدالقادر محمد محمد الحوثياحمد الحواثي زيد مطيع دماج لطف الحبوري لطف الكستبان محمد العمراني زيد حجرمحمد المضواحي محمد الوزير ومحمد اليدومي
صحافة البعثة
* ما هي أهم ملامح الأنشطة والخلافات التي أشرت إليها¿
– قبل أن يجيب.. وجدته يفرد بين ذراعيه ورقة كرتونية من الحجم الكبير.. فيقول».. هذه نسخة من المجلة الحائطية التي أصدرتها في بني سويف..» ثم وضعها أمامي للاطلاع عليها.. كان لونها قد تغير إلى الرمادي.. لكن حروفها وجمال خطها باليد ينبض بالحياة.. أطلق الأستاذ السنيني على مجلته اسم «فكرة» وهيئة تحريرها مكونة من : «محمد حسين وعلي الشامي».. العدد الثاني 1 يناير 1961م وآخر يعود تاريخه إلى 26 يناير 1961م الموافق 29 شعبان 1380هـ استعرضت محتويات العددين.. بدأت بعناوين المقالات وأسماء كتابها.. فهذه «رسالة العدد حول مفهوم الحرية « لمحمد حسين ويكتب على الشامي عن أبعاد الخلافات «حول البعثة» ومقال آخر لمحمد حسين عن «رحلة إلى الوديان» وآخر تناول فيه «الاشتراكية العربية».. وتحت عنوان: «أيها المشرفون أضغطوا» يستعرض محمد الزرقة سبب تردي أنشطة لجان البعثة ويرجعه إلى غياب المسئولية ثم يؤكد على أهمية ترك الصراعات من اجل الوطن.. وفي عدد آخر يكتب محمد الحوثي عن «الصداقة التي ننشدها» وينتقد محمد العمراني أرشيف اللجان وعلى وجه الخصوص يهاجم تقصير لجنة النظام تجاه أعضاء البعثة.. في حين يوجه علي الشامي نداء إلى الكتاب في الصحف الثلاث الطالب والنور والحرية وطالب بوقف المهاترات وعدم استخدام لغة الشتم والتخوين وترك الحملات الشعواء المتبادلة بين أعضاء البعثة.
ومن مواد العددين حواران تحت عنوان (س+ج) أحدهما مع علي لطف حول مشاريعه بعد الثانوية وطموحه بدراسة الاقتصاد والأخر مع لطف الحبوري محتويات مكتبة البعثة والى أي مدى تلبي رغبة الطالب في تثقيف ذاته.
وتضمن العددان العديد من الفقرات من الحكم والأمثلة والشعر أما الرسومات الكاريترية فهي بتوقيع (دماج).
انقسام .. ومواقف
* أترك المجلتين جانباٍ وأعود لمواصلة الحوار مع الأستاذ محمد السنيني فسألته هذه المرة عن الدوافع التي جعلته يصدر مجلته «فكرة»¿
– قال: عند وصولي إلى بني سويف في منتصف عام 1957م شعرتْ بوجود انقسام بين أعضاء البعثة إلى مجموعتين الأولى تضم أبناء الأمراء والثانية من أبناء الفئات الأخرى بحسب التمييز الإمامي بين أبناء الوطن الواحد.. كانت المجموعة الأولى أبناء الأمراء والحاشية يحظون بالدعم المالي من قبل أهاليهم الذين يزورنهم بين الفينة والأخرى ويحملون لهم الهدايا ويغدقون عليهم بالأموال ووجد في تلك المجموعة من لا يقبل النقاش حول أوضاع البلاد وتعارض مختلف الأنشطة خاصة منها الثقافية والرياضية والاجتماعية والتي كانت محل جدل وإثارة من قبل المجموعة الثانية.. وكان لهذه المواقف أثارها السلبية على نشاط البعثة.. فصدرت ثلاث مجلات حائطية هي: النور الطالب والحرية و(الأخيرة أصدرها محمد ردمان الزرقة).
فكرت بدوري بإصدار مجلة رابعة أسميتها «فكرة» وساعدني في تحريرها الزميل العزيز علي الشامي جعلناها مفتوحة لجميع الآراء من أجل فتح جو هادي بين الجميع وشارك فيها الكثير من الزملاء وكنا نكتبها بخط اليد اما الرسومات الكاريكاتورية فهي للزميل العزيز زيد مطيع دماج.. هذه المجلة وغيرها كانت تعلق في مقر البعثة وحول محتوياتها يشتد الجدل والنقاش الساخن.
نشاط سياسي
* قلت له: هذا يقودنا إلى أن أسألك عن أوجه الأنشطة التي جذبت اهتمام الطلاب اليمنيين خاصة مع تواجد زعماء الحركة الوطنية اليمنية في القاهرة¿
– قال: معروف أن القاهرة بعد ثورة 23 يوليو 52 تحولت إلى مركز إشعاع ثوري وثقافي وسياسي لجميع العرب من محيطهم إلى خليجيهم.. وبالنسبة للشباب اليمني كان لتواجد الأستاذين احمد محمد نعمان والقاضي محمد محمد الزبيري تأثير على توجهات الكثير من الطلبة.. وفي تلك المرحلة من الخمسينيات ظهرت المنظمات والأحزاب القومية مثل حركة القوميين العرب والبعث وغيرها.. وكان الوسط الطلابي هدفاٍ لأنشطة تلك التيارات بهدف استقطاب الشباب إلى صفوفها.. ومن أبرز قيادة القوميين العرب.. الأساتذة والأصدقاء قحطان محمد الشعبي ومالك محمد الارياني وفيصل عبداللطيف الشعبي وسلطان احمد عمر الذي كان يدرس في بيروت ودائم التردد على القاهرة.
ومن العناصر الفعالة والمؤثرة من البعث كان الأستاذ محسن احمد العيني.. ولا أنسى هنا الدور الأهم الذي لعبته رابطة الطلبة اليمنيين وموقفها الوطني وكانت تضم أبناء اليمن من شماله إلى جنوبه دون استثناء فقد ردت على المشروع البريطاني «اتحاد الجنوب العربي» برفع راية الوحدة اليمنية عالياٍ.. وكما تجلى نشاط اليمنيين في القاهرة بشكل واسع مع تزايد أحاديث النعمان والزبيري والعيني والشعبي من صوت العرب فهؤلاء المناضلون والقيادات الوطنية شرحوا الأوضاع المزرية في اليمن.. قدموا عدالة القضية اليمنية وكشفوا السياسة الإمامية والاستعمارية المعادية لأمال وطموحات اليمنيين في الحرية والاستقلال والوحدة.. وكان لأحاديثهم أهمية بالغة من كونها مهدت لقيام الثورة اليمنية في السادس والعشرين من سبتمبر ومن ثم الرابع عشر من أكتوبر.
مع القوميين العرب
* قلت له: وأنت يا أستاذ محمد.. هل بقيت بعيداٍ عن النشاط السياسي ولم تنضم لأي تيار¿
– قال: سوف لا أكون صادقاٍ معك إذا ما رديت على سؤالك بــ «لا» لأنه من النِادر في الخمسينيات والستينيات أن لا يستقطب هذا الشاب أو ذاك الطالب لأي حزب..وبالنسبة لي فقد استقطبني إلى حركة القوميين العرب بالقاهرة الصديقان مالك محمد الإرياني وفيصل عبداللطيف الشعبي.. بقيت على علاقة بهما وبكثير من قيادات الحركة بعد العودة إلى صنعاء ومن هؤلاء الرئيس قحطان محمد الشعبي والأستاذان سلطان احمد عمر وعبدالحافظ قائد وبعد 1967م انقطعتْ عن زعماء الحركة.. بسبب انشغالي بالعمل الإعلامي وتنقلي بين صنعاء وتعز.. لكن علاقتي وتواصلي معهم لم تنقطع برغم الظروف الصعبة.

منحة عبدالناصر
* وإلى أي عام بقيت في بني سويف¿
– بقيت إلى (1961م) في بني سويف وذلك العام انتهت البعثة لإكمال الطلبة لدراستهم الثانوية حيث انتقلوا إلى القاهرة وطنطا لمواصلة دراستهم الجامعية بتخصصات مختلفة وتركت بدوري بني سويف إلى القاهرة بحثاٍ عن مخرج.. وبالمناسبة المنحة التي كنت انتظرها في صنعاء وسافرت من اجلها إلى الصومال.. حصلت عليها في القاهرة على حساب المؤتمر الإسلامي وبتوجيه من الرئيس جمال عبدالناصر حيث أنهيت الثانوية العامة في القاهرة وفي عام 1962م حصلت على منحة إلى ايطاليا بواسطة الأستاذ القاضي محمد محمود الزبيري لكنني لم اذهب إلى روما.
* لماذا¿
– حدث أن قامت ثورة 26 سبتمبر.. فالتحقت بمعهد التدريب الإعلامي في القاهرة.

ثورة اليمن بالقاهرة
* أين كنت يوم قيام الثورة¿
– كنت في القاهرة مع الزميل علي الشامي نبحث عن سكن بعد أن استضافنا لأسابيع الأستاذ محمد أحمد الرعدي في شقته وكان مسافراٍ إلى اليمن .. وبينما كنا نمشي في أحد شوارع القاهرة بالصدفة التقينا زميلاٍ لنا: سأل عن وجهتنا فقلنا له نبحث عن شقة.. قال: انتم مجانين تبحثون عن سكن.. هل سمعتم الخبر الذي هز الدنيا قلنا له ما هو¿ قال: قامت ثورة في اليمن.. ذهبنا إلى شقته وكانت مليئة بالطلاب اليمنيين.. وجدناهم في حالة فرح طفولي حول جهاز الراديو يتابعون أخبار الثورة من صوت العرب ولندن.
ومن ذكريات الساعات الأولى للثورة.. أن السفارة اليمنية في القاهرة التي كانت قبل 26 سبتمبر 1962 مهجورة ومسكونة بالهدوء تحولت إلى خلية نحل ومركز لتجمع اليمنيين مهرجانات خطابية وبيانات وبرقيات تؤيد الثورة وتعلن انتصار إرادة الشعب اليمني وجيشه البطل في إزالة الكابوس.
ومن اليوم الأول للثورة انشغلت الصحف المصرية وصوت العرب بقيام ثورة اليمن وتتابع تطوراتها وترصد ردود الأفعال الدولية والعربية المؤيدة لها والمعادية لها.. كما وأبرزت وقوف الجمهورية العربية المتحدة (وهو أسمها يومذاك) بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر مع ثورة اليمن وشعبها.
* وماذا فعل كبار السياسة اليمنية ¿
– في الأيام أو الساعات الأولى من إعلان قيام ثورة 26 سبتمبر كثيرون من كبار السياسيين أمثال الأساتذة محمد محمود الزبيري محسن العيني محمد مانع أحمد نعمان الدكتور البيضاني قحطان الشعبي عبداللطيف الشعبي وغيرهم من الشباب تركوا القاهرة في طريق العودة إلى صنعاء.
دراسة الإعلام
* قلت أنك التحقت في المعهد الإعلامي كيف¿
– ذهبت إلى السفارة اليمنية بالقاهرة فوجدت إعلاناٍ يشير إلى توجيهات من الفريق حسن العمري لمن يرغب بالعودة إلى اليمن للعمل في مجال الإعلام فعليه أن يتقدم إلى السفارة للحصول على منحة دراسية في المعهد العالي للإعلام والمسرح في القاهرة وكنتْ من ضمن من تقدموا وقبلوا في المعهد وكان معي من عدن الزميلة المذيعة فوزية غانم وعلى مدى تسعة أشهر تقريباٍ تلقينا دراسة مكثفة على أيدي أساتذة متخصصين بالعمل الإعلامي كان التركيز على أهمية الإعلام ودوره في حشد الجماهير وبعث الحماس الوطني الثوري وكيفية مواجهة أساليب الدعاية الاستعمارية والقوى المضادة للثورة والرد عليها.. تلقينا أيضاٍ المعارف المتعلقة بكيفية إعداد البرامج الإذاعية والتعامل مع ميكرفون الإذاعة وإجراء المقابلات والنقل الصوتي على الهواء.. إلى أسلوب كتابة وإعداد التقارير والتحليلات والمقالات الصحفية وفنون الأخبار.. وكنا نتدرب في صوت العرب بعد نحو عام من الدراسةْ.. عدتْ إلى الوطن لتبدأ علاقتي بالعمل الإذاعي والصحفي الذي استمر أكثر من أربعة عقود.
العودة إلى الوطن
* قلت: أستاذ محمد السنيني.. قبل أن ننتقل بالحديث إلى تجربتك الطويلة في ميدان العمل الإعلامي.. دعني أسألك عن صورة صنعاء يوم عْدت إليها من القاهرة بعد غياب دام سنوات¿
– قال وهو يتراجع إلى الخلف لينظر عبر نافذة المنزل إلى جبل نْقم ثم يستدير نحو ميدان التحرير وكأنه يستعيد شريط ذكريات العودة ثم يقول:
إنك يا عبدالحليم حركت فيني وفي أعماقي ذكريات الماضي.. لقد نسيت بالضبط اليوم الذي عدت فيه إلى صنعاء في يونيو 1963م ما اذكره هو أني تركت صنعاء قبل سبع سنوات بجواز إمامي ورجعت اليها بجواز سفر جمهوري.. ما إن خرجتْ من الطائرة في مطار الرحبة الواقع حينذاك في الحصبة (حاليا حديقة الثورة) حمدتْ الله.. فأخرجت من جيبي جواز سفري الإمامي فألقيت عليه آخر نظرة ثم قطعته ونثرتْ أوراقه لتتطاير في الهواء ولسان حالي يقول فليذهب جواز المملكة المتوكلية إلى الجحيم.
* قلت: لماذا أعدمت جوازك وهو وثيقة شخصية وتاريخية أيضاٍ¿
– قال بعد أن ضحك بسخرية: مْغفل.. لكن أردت أن أتخلص من كل شيء له علاقة بالعهد الإمامي الظالم المباد الذي أذاقنا وأذاق الشعب أنواع العذاب.. شرده وأفقره مع أن اليمن من أغنى الدول.
وقال أيضاٍ: ما كنت أفكر فيه في تلك اللحظات وكغيري من شباب اليمن المشحون بالحماس الوطني والثوري.. هو المستقبل.. وكيف نحقق أهداف الثورة ونبني وطناٍ جديداٍ على أنقاض نظام ما قبل 1962م.

صنعاء.. وعنفوان الثورة
* وعدتْ أسأله عن ملامح المشهد الذي رآه في العاصمة¿
– أجاب: كانت صنعاء كبقية مدن اليمن تعيش عنفوان الثورة وزخمها.. فالمدينة غير التي تركتها في 1957م.. صحيح أن المباني والشوارع لا زالت في تلك الأيام.. هي.. هي لم تتطور او تتجدد.. إنما الروح الحية المعبرة عن إرادة الشعب اليمني وابتهاجه بثورته هي الطاغية.. الشيوخ والصغار النساء والرجال يتنفسون برئة سبتمبر.. ولم تعد صنعاء مغلقة على أهلها من أصبحت مع الثورة أصبحت تحتضن جميع أبناء اليمن.
وقال الأستاذ السنيني أيضاٍ: ومن مشاهد الأيام الأولى للثورة في ما رأيته في منظر الجنود اليمنيين من طلائع الحرس الوطني وهم يسيرون في خطى واثقة وطوابير متراصة في ميدان التحرير.. كانوا من مختلف الأعمار والمناطق اليمنية ** لبوا نداء الثورة فالتحقوا بالجيش اليمني الوطني الذي ينتمي للشعب وليس تابعاٍ لشخص.. ملابسهم لم تكن موحدة هذا بفوطة أو معوز أو ببنطلون وذاك بزي عسكري .. أو بزنه.. لم يكن مهماٍ الزي وإنما الروح الكامنة في الأعماق والناطقة باندفاع اليمنيين وحماستهم وحبهم لوطنهم واستعدادهم للتضحية من أجل ثورة حررتهم من عبودية الفرد.
وهناك صورة ثالثة.. إذ لا يخلو سقف بيت أو عمارة أو محل ومؤسسة من العلم الجمهوري وهو يرفرف خفاقاٍ في السماء يعكس كبرياء اليمني وشموخه وعزته .. رابع الصور لحاضرة في قلب مهرجان الفرح اليمني تتمثل في انتشار أجهزة الراديو ترى الناس يتابعون إذاعة صنعاء وهي تبث أخبار الثورة والصور الصوتية والأناشيد والأغاني الوطنية الحماسية.. ساعتها شعرتْ أن اليمنيين عرفوا أخيرا أنهم يملكون إذاعة يسمعون عبر أثير موجاتها أصواتهم وهتافاتهم الناطقة بهمومهم وأحلامهم في حياة لائقة بهم كبقية شعوب العالم.

عبدالناصر في اليمن
ويستطرد السنيني متابعاٍ: وهناك صورة خامسة وسادسة للضباط والجنود المصريين القادمين من أرض الكنانة لدعم ثورة اليمن.. وهو السند الذي بدونه ما كان ليتحقق الانتصار لثورتي سبتمبر وأكتوبر.. وهذه حقيقة لا ينكرها إلاِ جاحد أو مكابر ..
ثم يقول: ما تزال ترن في أذني صرخات الجماهير في ميدان التحرير بصنعاء حين كان عبدالناصر يخطب وسط غابة من بنادق القبائل.. ونفس المشهد تكرر بميدان الشهداء في تعز عندما زحفت الجماهير من القرى والجبال ومن عدن والوديان لاستقبال عبدالناصر.. من بمقدوره أن ينسى الكلمات النارية المدوية للرئيس عبدالناصر عندما قال: «على الاستعمار البريطاني أن يحمل عصاه ويرحل من أرض جنوب اليمن الثائر.. جنوب اليمن الحر» وهو ما تحقق.. وذلك الاستقبال الجماهيري الاسطوري لعبدالناصر وحده يكفي للرد على خصوم الدعم المصري العسكري السياسي والتعليمي والثقافي لليمن.. وبه كما قلت انتصرت الثورة ودحر الحصار أيام السبعين يوماٍ وتحقق الاستقلال في 1967م.

قد يعجبك ايضا