استطلاع/معين النجري –
السجن الذي فقد اسمه ولم يعد يتذكره أحد
أشبه بخرابة هرمة لا يسكنها ولا يحن إليها أحد غادره الأتراك دون أدنى التفاته لكن الإمام أعاد تشييده وتحصينه كما يجب حتى يتمكن من أداء المهمة الموكلة إليه.
لقد كان الإمام يدرك جيداٍ ما ينتظره من متاعب وما ينتظر حكمه من رفض ومقاومة ستمتد من أقصى اليمن إلى أقصاه.
ولذلك كان حريصاٍ على تشييد السجون بإتقان لتستطيع استقبال الرافضين وتأمين حياة غير قابلة للفرار.
استطلاع/معين النجري
حين طلبت من سائق الباص أن يوصلني إلى سجن الزاجر وقف مستغرباٍ ثم أجاب »أنا لا أعرفه.. لا يوجد في مدينة إب سوى سجن وحيد هو السجن المركزي.
أهالي مدينة إب لم يتركوا شيئاٍ يذكرهم بسجن الزاجر ولا بسنوات الزاجر حتى غاب هذا الاسم عن أحاديثهم اليومية ليذهب إلى سلة النسيان هذا الجيل لم يعد يسمع بشيء اسمه الزاجر.
قلت لسائق الباص وهو شاب في العشرينيات من عمره: ألا يذكرك هذا الأسم »الزاجر« بأي مكان في إب أجاب وهو يفرك جبينه بعنف أنا أعمل في مدينة إب منذ عشر سنوات ولم أسمع بهذا الاسم ولو لمرة واحدة.
بعد الثورة
رغم أن الزاجر سجن ارتبط بشكل أساسي بحكم آل حميد الدين لليمن والذي امتد من عام 1919 حتى عام 1962م إلا أنه لم يترك مهامه بعد سقوط حكم الأئمة وانتصار الجمهورية بعد ثورة 26 سبتمبر عام 1962م لقد استعصى حتى على عجلة التغيير والحياة ولو لفترة من الزمن ربما كانت احجار السجن وأبوابه الخشبية الثقيلة ونوافذه الصغيرة تعشق عملها وتخلص للحابس والمحبوس.
لقد قاوم سجن الزاجر محاولة طمس هويته فظل متمسكاٍ بمهامه حتى بعد الثورة وقد استخدمته الجمهورية لبضع سنوات لكنها سرعان ما تخلصت منه ليصبح مجرد خرابة لا يحب أحد تذكرها أو حتى المرور من جوارها.
ومع هذا فقد ظل في الذاكرة لأنه ما يزال قائماٍ في مكانه كشاهد حي على حقبة زمنية قيل فيها الكثير. غير أن أهالي مدينة إب لم يطيقوا مجرد النظر إليه أو إبقائه على حاله لقد ارتبط بمرحلة زمنية معينة ويجب أن يجمع أوجاعه ويرحل كما رحلت لقد ظل الأهالي يطالبون بهدمه إلى أن كان لهم ذلك.
قصص وحكايات
»الزاجر« مصطلح أختير بعناية فائقة مثلما اختيرت أسماء إخوته في صنعاء وحجة وتعز إنه اسم يثير الرعب في نفوس المواطنين خاصة في زمن كان الناس يعيشون فيه أوضاعاٍ مرعبة مثل الجوع والفقر والمرض والعزلة وانعدام الحريات فكان الزاجر والرادع والقاهرة نتيجة مرعبة لكل من حاول رفض واقعه والثورة ضد واقعه ولو كانت ثورته من أجل الجوع أو الفقر أو المرض والتاريخ يحمل قصصاٍ كثيرة لمن حاولوا القيام بشيء أي شيء ضد واقعهم.
بين جدران سجن الزاجر المظلمة بكل أنواع القهر الموجود في مكونات أي سجن في العالم حدثت قصص بطولية وحكايات حزينة ومن هناك مر عدد من مناضلي أبناء إب إلى سجون أخرى كان أشهرها سجن حجة.
لقد كان بالنسبة للحكم الإمامي مجرد محطة عبور لمن يعتبرونهم عناصر خطرة قد تضر بنظامهم بينما قد يعتبر مكاناٍ جيداٍ لتاديب البعض هكذا استمر السجن المظلم يؤدي عمله بكفاءة ولم يسجل التاريخ ولو حالة فرار واحدة لسجين دخل الزاجر إلا أذا كان بمساعدة القائمين عليه.
لقد كان كابوساٍ يجثم على صدور أبناء إب عندما كان يْعد أقرب الأبواب إلى اللاحياة حيث كان الزمن يقف متحفزاٍ خلف تلك الأبواب.
يقول الشيخ عبدالعزيز الحبيشي »كان سجن الزاجر من الأسماء المفضلة عند الإمام«.
منارة علم
لم يتبق منه سوى جدار بسيط في ظهر الجبل طلي نصفه بالنوره في محاولة لمحو صفحات من الألم.
لقد تم هدم السجن لكنه لم يهدم ليتحول إلى مزار أو يسيطر على أرضيته النهابون كما يحدث في أماكن كثيرة خاصة في مدينة إب الجميلة لكنه هدم ليقام مكانه منارة علم استثنائية ليست مدرسة بكل تأكيد ولا جامعة ولا حتى جامع إنه شيء أهم بكثير من هذه الأشياء التي تتكرر بكثرة في بلادنا رغم أنها لا تقوم بعملها كما يجب.
لقد تحول سجن الزاجر في مدينة إب إلى دار أيتام وهنا تكمن المفارقة عندما يتحول من سجن كان مجرد ذكره يرهب أصحاب المنطقة يستقبل مناضليها والمتنورين من أبنائها ويضع حداٍ لحياة الكثير منهم إلى دار رعاية يستقبل الأيتام والفقراء لينير لهم الدرب يصنع لحياتهم ملامح المستقبل رغم أن معظم الأيتام ربما أن أمثالهم هم من غيروا وجه هذا البلد وصنعوا من معاناة اليتيم فرحة كبرى تسللت إلى كل بيت وأنارت لنا الطرق لنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم.
أيتام »الزاجر« سابقاٍ ودار الأيتام حالياٍ يمتلكون الكثير من المواهب في شتى فنون الإبداع ورغم كل المعاناة التي يتذوقونها بفعل اليتم إلا أن المستقبل مليء بالأحلام والطموح والآمال وغداٍ سنشهد نجوماٍ في سماء الوطن تخرجوا من هذا الدار ولن يتذكر أحد أنه كان سجناٍ بغيضاٍ.
المهم أنه لن يعود الدار في يوم من الأيام إلى سجن ولو من أي نوع.. هكذا نأمل ونحن نحتفل بالعيد الذهبي لثورة السادس والعشرين من سبتمبر.