التاريخ يصنع وعينا (42) (فعجّل لكم) هذا الانتصار في الساحل

د. حمود عبدالله الأهنومي

 

 

من سنة الله، أن ينصر أولياءه، ما داموا يتحرّكون على أساس هداه، ولكنه يخبرهم أن النصر بيده، وأنه ليس منهم، ولا يأتي بحسب قدراتهم مهما بلغت، وأن عليهم فقط أن يبذلوا أسبابه، أما النتائج ومكانها وزمانها فالأمر متعلق بحكمته عز وجل وتدبيره، ومما أخبرنا القرآن الكريم به أن الله نصر عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه في محطات كثيرة.
لقد كانت الحرب ساخنة بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من جهة وقومه المشركين من أهل مكة من جهة أخرى، وهي الحرب العدوانية الضروس، التي كان يغذيها اليهود بمكرهم وكيدهم وتدبيرهم وفسادهم المعروف، وكانت الجزيرة العربية تنتظر تصفيات هذه الحرب ونتائجها، وكانت موازين القوة قد تغيرت لصالح المسلمين منذ ما بعد معركة الأحزاب، فتحوّل المسلمون حينها من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم على مراكز القوى المشركة في الجزيرة التي حالت دون الإيمان بدين الله، وقد عبّر الرسول عن ذلك بقوله: (اليوم نغزوهم ولا يغزوننا)، وكان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة.
في السنة السادسة تحرك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة معتمراً، وهو وإن كان يعبِّر عن حالة روحية سادت المسلمين، عبّرت عن لوعتهم وشوقهم إلى المسجد الحرام وبيت الله الحرام، إلا أنه يعبر من ناحية عسكرية عن فائض قوة بات لدى المسلمين، فهم يريدون الذهاب إلى العمرة في أرض يوجد فيها أبرز وأكبر خصومهم العسكريين المحاربين، وهذا فيه ما فيه من إهانة عسكرية ومعنوية لهؤلاء الخصوم، وقد انتهت هذه الجولة بصلح الحديبية، الذي رأى فيه بعض القاصرين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يلبي متطلباتهم وطموحاتهم.
لكن الله سرعان ما وجّه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيه ضربة قاصمة إلى مركز الدسِّ والمؤامرات في الجزيرة وهي خيبر، التي كان يقتعدها أخطر خصوم الرسول من اليهود الماكرين المفسدين، الذين يضعون الخطط والمؤامرات التي تستهدف المسلمين، وكانت بأيديهم إمكانات مالية وعسكرية وثقافية كبيرة، فعجل الله فيه بالنصر الحاسم والمؤزّر على يد الإمام علي عليه السلام، وحينئذ أنزل الله قوله تعالى: (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً {20} وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً {21} وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً {22} سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً {23}) سورة الفتح.
تبيِّن الآياتُ أنَّ الله وعد المؤمنين مغانم كثيرة يأخذونها، وأنه عجّل لهم فتح خيبر، وذكَّرهم بأنه كفَّ أيدي الناس عنهم، وهو هنا يريهم عجيب تدبيره ونصره وتأييده لهم؛ ليكون في ذلك آية لهم أنه على كل شيء قدير، وأنه بهذه الآيات يهديهم ويبرهن لهم أنهم يمضون على صراطه المستقيم، ويزودهم بالآيات التي تبين لهم أنهم في طريق الحق، ثم ذكر لهم أنه ادّخر لهم مغانم أخرى، لم يقدروا عليها بعد، وهي فتح مكة، وغنائم حنين، ولكن الله قد أحاط بها، وصارت بمنزلة ما في اليد من المغانم؛ لأن موازين القوة التي يهيئها الله لعباده المؤمنين باتت تشير أنها لصالح المسلمين حينذاك، وأنها باتت في حكم الساقطة في أيديهم، وأن الله سيعطيهم إياها؛ لأنه على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء، ولا يفوته أمر، ومع ذلك بيّن الله لهم أنهم حتى لو قاتلهم الذين كفروا لولّوا الأدبار، ولا يجدون لهم وليا ولا نصيرا، وأن هذه سنة الله التي اقتضت وتقتضي أنه ينصر عباده المؤمنين (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)، وأن سنن الله لا تتبدّل ولا تتحول.
ومن عظمة القرآن أنه يصدُقُ بسننه القرآنية وآياته العجيبة على وضعيات وحالات كثيرة في واقع المؤمنين، وحين نتأمل واقعنا اليوم كيمنيين مسلمين مدافعين عن بلدنا وعرضنا وديننا وعزتنا وكرامتنا، وفي هذه الأيام بالتحديد، وانشغالنا بجبهة مارب، وتعجيل الله لنا انتصاراً مجانياً في الساحل، نجد مصداق ذلك في هذه الآيات من سورة الفتح، حيث وجدتها تنطبق على واقعنا بشكل مذهل ومدهش، وها هي الآيات تنطق بكلماتها وحروفها على واقعنا العجيب.
فنحن نخوض صراعاً عنيفاً وساخناً مع تحالف الشر والمكر من اليهود والنصارى والمنافقين العرب والمحليين، والله من خلال وعوده قد وعدنا بالمغانم الكثيرة، ولكننا بينما نخوض معركة ساخنة نحن وأمريكا والغرب الكافر من أجل مارب عجّل لنا نصراً مجّانياً وسهلاً في الساحل، قال تعالى: (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)، وفي نفس الوقت كفّ عنا أيدي كثير من هذا التحالف اللعين، قال تعالى: (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً {20}) وأما مارب وما فيها من خيرات اقتصادية لعموم الشعب فقد أحاط الله بها، وصارت في قبض اليد، ويحيط بها المجاهدون إحاطة السوار بالمعصم، وعما قريب ستكون بوعد الله في أيديهم، قال تعالى: (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً {21})، ثم يذكر الله أنهم لو قاتلونا لولوا الأدبار، ولا يجدون لهم وليا ولا نصيرا، (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً {22}) ثم يذكر الله عز وجل أن هذه هي سنته مع عباده المؤمنين (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً {23}).
لقد رأيت كلاماً عظيماً للشهيد القائد في ملزمة الدرس الرابع من دروس رمضان يمكن أن يفسر هذه الحالة العجيبة من التأييد الإلهي والمكافآت الربانية، وما عجله الله مكافأة للمؤمنين من نصر في الساحل مكافأة مستعجلة، فتحررت مناطق واسعة لم يطلق المؤمنون فيها طلقة واحدة، قال عليه السلام-بتصرُّف-:
«القرآن الكريم يقدِّم لك المسألة بأنّ الله هو مدبِّر شئون السماوات والأرض، وأنه إليه يُرْجَع الأمرُ كلُّه، وأنه إليه عاقبة الأمور، معنى هذا: لا تتصور بأنك أنت ومن معك من الناس أنكم ستحملون الجبال، وتغيِّرون مجرى هذا العالم، وتغيرونه أنتم بأنفسكم، لا، ليست المسألة على هذا النحو، بل الحقيقة أنكم شغالون في جانب، والباري في الجانب الآخر يشتغل ويعمل ـ إذا صحت العبارة ـ، يعمل كثيراً من الأشياء التي لا تخطر في بالك، ولا تصل إليها قدراتك، لا الذهنية ولا المادية، إنه هو المدبِّر، هو المغيِّر، هو يصنع المتغيرات، وقد ضرب لنا عز وجل أمثلة كثيرة في القرآن على هذا».
من هذا نخلص بهذه الدروس:
أولاً: أن النصر بيد الله، وليس بما معنا من إمكانات مادية ولا بشرية.
ثانيا: أن الله سبحانه ينصر عباده المؤمنين، ما توفرت فيهم شروط الاستقامة والانتصار، والتي منها الاعتصام الجماعي، والتحرك بحسب هداه وتعليماته.
ثالثا: أن الله يعجل لعباده المؤمنين نصراً مجانياً وسهلاً وغير متوقع ولو كانوا في نفس الوقت منشغلين بتحصيل انتصار آخر في مكان آخر لم يقدروا عليه بعد، وإن كان الله قد أحاط به.
رابعاً: أن نثق بوعود الله أكثر، وبفاعلية سننه الإلهية القرآنية في واقعنا، وأن الله يقدم لنا كل يوم ما يبرهن أننا على طريق الخير والصواب والحق والرشاد.

قد يعجبك ايضا