السودان.. ودور أمريكا في الانقلاب

أحمد يحيى الديلمي

أحمد يحيى الديلمي

 

 

دائماً تثبت الأيام أن الإنسان مهما حاول أن يُظهر خلاف ما يُبطن ، إلا أن كل شيء سرعان ما يتكشف وتتضح للناس جميع الخفايا التي ظن أنه ذكي وعبقري يستطيع أن يخفيها عنهم ، وهذا هو محور حديثنا.
ما يحدث اليوم في السودان له العديد من الدلالات التي لا بد من الإمعان في قراءتها لمعرفة الأمور الخفية التي تحاول أمريكا عدم الإفصاح عنها من أجل الوصول إلى غايتها الأساسية وإن اتبعت في ذلك أساليب منحطة ولا أخلاقية لأن الهدف الأساسي في النهاية يصب في خدمة دولة الكيان الصهيوني والوصول إلى تطبيع العلاقة بينها وبين دول المنطقة ، كما عملت مع بعض الدول ومنها السودان .
من هذا المنطلق يُمكننا أن نقرأ الأحداث في السودان وتأثيرها على المنطقة بشكل عام ، خاصة أن الوسيط هو جفري فلتمان الذي كان له دور بارز في لبنان وكاد أن يُفجِّر الموقف عام 2007م، فلقد اتبع نفس الأسلوب ونفس الطريقة من خلال الاجتماع مع قيادات لبنانية بارزة في المساء ، وفي الصباح كادت الأوضاع أن تنقلب رأساً على عقب ، لولا حكمة وبصيرة قائد المقاومة السيد حسن نصر الله الذي تصرف بمسؤولية وحرص شديد على أمن وسلامة لبنان وشعبه ، وها هو الموقف يتكرر اليوم، فلقد اجتمع نفس الرجل بأبرز القيادات السودانية وفي المقدمة البرهان حميدتي مقابل حمدوك رئيس الوزراء وخرج من الاجتماع ليقول إن الأمور تسير نحو الانفراج ، ثم أخذ طائرته واتجه إلى مصر وجلس مع وزير الخارجية المصري سامح شكري يراقبان الموقف في السودان ، وإذا بالبرهان يُعلن -عند طلوع الفجر -الانقلاب التام على كل شيء ، طبعاً السذج وغير المطلعين على خفايا الأمور يقولون إن أمريكا أدانت واستنكرت ما جرى ، غير مدركين أن هذه هي الطريقة المعهودة لما يسمى بنظرية “التسريب والتكذيب” وهو مجرد سيناريو يتم إعداده سلفاً في إطار الخطة الأمريكية الواسعة لإحكام السيطرة على الشرق الأوسط ، والتي بدأت بإعادة طالبان إلى أفغانستان وقبلها تفجير مرفأ بيروت ومحاولة إلصاق التهمة بالمقاومة اللبنانية ، ثم وهو الأهم إعادة العسكر إلى حكم السودان ، وهنا تنكشف تماماً مصداقية أمريكا الزائفة التي تدعي أنها حامية حمى الديمقراطية وأنها تسعى إلى تجذيرها في المنطقة ، وإذا بها تنقلب على هذا المبدأ بمجرد أن رأت مصالحها تهدد وفي المقدمة وجود تيار يرفض التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني ، وبالذات القوى السياسية القومية واليسارية التي رفضت رفضاً قاطعاً شرط أمريكا المجحف لتقديم المساعدات وهو أن يقبل الجانب السوداني بدخول شركات إسرائيلية لتنفيذ بعض المشاريع التي ستمولها أمريكا بحجة اكتمال عملية التطبيع، لكن هذه القوى عارضت بشدة وجعلت أمريكا تستعجل مبدأ العودة إلى عسكرة البلاد وتسليم السلطة إلى الجانب العسكري ، وهكذا تحاول أمريكا أن تُعيد صياغة المنطقة بأسلوب استفزازي يخلو من أي أخلاق أو مبادئ أو قيم ، وبالمقابل تتضح أكثر علاقة الإخوان المسلمين بالتوجه الأمريكي وتحولهم إلى مجرد أدوات لخدمته وترجمته على أرض الواقع وهو ما يبدو جلياً من الدور الخفي لجبريل إبراهيم عرّاب التطبيع ووزير المالية أثناء حكم البشير ، كل هذه الدلائل لا شك أنها تتضح أكثر عندما نعرف الدور الخفي لكل من مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة، فكلاهما مهدتا لما يحدث الآن في السودان، وبدأت أسراب الدعاية ضد الحكومة المدنية تتواكب في وسائل إعلام هاتين الدولتين وكأنهما المعنيتان بهذا الأمر ، وهنا نُدرك أن السياسة الأمريكية الملتوية توظف الديمقراطية فقط لخدمة مصالحها الذاتية ، وعندما تجد مكوناً حقيقياً قوياً تعتمد عليه في خدمة هذه المصالح لا يهمها إن كان ديمقراطياً أو عسكرياً أو مدنياً ، المهم أن يخلص في خدمة المساعي والغايات الأمريكية المجحفة ، علمأً أن أهم ما تسعى إليه هو خدمة مصالح دولة الكيان الصهيوني .
من هذه الحقيقة نُدرك مدى البُعد الكبير بين قيادة الثورة في صنعاء وهذه الدولة الماكرة ويتضح أكثر إصرار أمريكا على استمرار العدوان في اليمن ومد أدواته العربية المنفذة بكل أنواع الأسلحة من أجل استكمال تطبيع الأوضاع مع الطرف الحاكم في صنعاء ، إذا ما انصاع لمطالب وطموحات أمريكا المجحفة، وأبرزها قبول التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني والتخلي عن دعم قضية الشعب الفلسطيني العادلة، وهو بون شاسع بين هذه الرغبات وبين موقف قيادة الثورة في صنعاء ، فالقبول بتلك المطالب مستحيلاً جداً بالنسبة لقيادة المسيرة القرآنية ولا يمكن أن تقبل بهذا الأمر تحت أي مسمى كون الموقف مبدئياً ولا يقبل المساومة، وبالتالي فإن المطلوب هو الفهم الذاتي الأكثر عمقاً لطبيعة السياسية الأمريكية والإحاطة بمصدر صناعة العقل والقرار الأمريكي لضمان الصمود والتصدي لكل محاولات التركيع والإذلال الأمريكية التي تتم بآليات سعودية وإماراتية ، فهذه هي أمريكا وهذا هو ديدنها وها هي اليوم تلعب في السودان على كل الحبال ، وإن أظهرت في العلن رفضها القاطع للتحول المجحف المتمثل في الانقلاب العسكري، إلا أن المقدمات تفضح النتائج – كما قلنا – جفري فلتمان مبعوث أمريكا إلى القرن الأفريقي سبق له أن حاول تنفيذ نفس السيناريو في لبنان وأراد أن يورط حزب الله في معركة خاسرة ، إلا أن الحزب كان أكثر عقلانية وتبصراً وقراءة للمستقبل ، فرفض الانزلاق نحو تلك الهاوية الخطيرة وعالج الأمور برويَّة ومنطق أفشل كل المحاولات ، والسؤال هو: هل ستوجد في السودان نفس الكيانات المالكة للإرادة الذاتية التي تتحلى بعقول ناصعة البياض بعيداً عن التأثر بسياسات الآخرين؟! إن وجدت هذه القيادة فستكون هي سفينة النجاة التي تُخرج السودان من مأزق الكارثة أولاً ثم من جريمة التطبيع ثانياً ، وهذه ستظل مجرَّد أُمنية لدى كل إنسان عربي يُكنُّ للسودان المحبة وللأمة العربية أيضاً كل الود والإخلاص ، من منطلق أن ما يجري في السودان ليس إلا نقطة ضمن مخطط خبيث يستهدف كل المنطقة العربية والإسلامية، وعلى الجميع أن يُدركوا أبعاد ودلالات هذه الخطة ، وأخيراً أورد ما قاله الشاعر في البيت الذي تحوَّل إلى مثل سائد ،حيث قال المتنبي رحمه الله :
ومهما يكن عند أمرئ من خليقة
وإن خالها تُخفى عن الناس تُعلم
وعلى أمريكا أن تستفيد من هذا المثل وتُدرك أن سياساتها العقيمة بدأت تتجه نحو الأفول ، اللهم إني بلغت .. اللهم فاشهد .. والله من وراء القصد ..

قد يعجبك ايضا