أيقونة الشعر العربي


عبدالوهاب سنين

كان لا بد للقلم الشارب ظلمةً أن يلفظ نوراً، وحين أحملهُ أعد العُدة، ولكنه كان يداور ويخاتل وكأن بيني وبينه جفوة وغربة، وأجد في نفسي تطلعاً لما سيخطه هذا القلم العصي وتركت نفسي على سجيتها، وتركت قلمي رغم خصومته يمضي سهواً رهواً، ومضى يداعب أوراقي المتجعدة بسنه الصغير، و استطاع أن يزيل تجاعيد تلك الأوراق الذابلة، وسال حبره ينسج خطاباً إلى الهامة الشادخة في سماء الثقافة العربية، إلى شاعرٍ لانت له اللغة وعشقت عباراته البحور، فشاعرنا البردوني أحد أعمدة الشعر في الوطن العربي الرحب، ذلكم الشاعر الذي شابه المعري في محنته وعفته وعبقريته، ولست مداهناً أو مداوراً إذا قلت : أن البردوني باقعة عصره ولوذعي زمانه. ولست مبالغاً إذا قلت : أن البردوني أشعر شعراء اليمن في القرن الواحد والعشرين، وهو لم ير مثل نفسه حتى كتابة هذه الأحرف السابحة في الذاكرة.
وفي يوم غابر في صنعاء اليمن رأيت الاستاذ البردوني في أحد أحيائها القديمة، وكان يجلس في زاوية منفردا شاردَ الفكر, وقطعت عليه خلوته واستأذنت بالجلوس معه، فأذن لي وسمعت منه بدائع المعرفة، فالبردوني وعاءٌ ممتلئٌ علماً وأدباً وشعراَ، وكأن كلماته وبنيات أفكاره تنثال من شلال لا ينضب، وطلبت منه أن يسمح لي أن أحلق به إلى معرة النعمان عبر رواق من أروقة الخيال، ورحب الأستاذ بتلك الفكرة، وفي الفجر الأبلج طوحت بنا طوائح الزمن، حتى وصلنا معرة النعمان بسلام، وعند الوصول كانت السماء تسبل نميرها العذب بغزارة، وكانت تلك القطرات الدافئة تعانق الأرض معانقة المشتاق، وهناك أخذنا جوادين، وذهبنا إلى دار شيخ المعرة، ودخلت إلى فناء الدار ووجدت شيخ المعرة أحمد بن سليمان المعري، يملي على غلامه رسالة الغفران، وبعد الانتهاء، القيت السلام على أبي العلاء، وقال : كأني أسمع صوتا مألوفاً
قلت : يا أبا العلاء هذا أنا عبد الوهاب جئتك من اليمن بصحبة من راق لك شعره، بصحبة شاعر قلَّ أن تجود اليمن بمثله.
قال أبو العلاء: أهو من وعدت في غابر الأيام بإحضاره ؟
قلت : نعم ، قال : أين هو شاعر اليمن الملهم؟
قلت : يستأذن الدخول.
قال أبو العلاء: وهل ينتظر مثل هذا الباقعة الإذن، عندما كنت يا بني بصحبتي قبل عشرات السنين أسمعتني من شعر البردوني، ومن يومها طلبت من مردة الشعر إحضار ديوانه، وها هو اليوم زاداً لطلبة العلم، أدخله في الحال فهو ضرير مثلي، وقد أصابه ما أصابني ويحتاج للمساعدة، ودخل البردوني على أبي العلاء واحتضنه، وعرف قدره، وأكرم وفادته، وهناك تساجلا الشعر، وخاضا بحر الفكر، وكأنهما صنوان لا يفترقان، وقال : أبو العلاء للبردوني أيها الشاعر الأسيف العفيف الذي لم يقرع باب سلطان قط، ولا داهن من أجل المال حاكماً رغم الفاقة التي عشتها، والضيم والحرمان، فشعرك كنز لم تُستخرج جواهره ونوادره، هلاَّ أسمعتني أيها الشاعر الآسر شعراً تجود به قريحتك.
قال البردوني : أعرني سمعك يا أبا العلاء
مِنْ تَلظَّى لُمُوعِهِ كادَ يَعْمى
كادَ مِنْ شُهرةِ اسْمِهِ لا يُسمَّى
جاءَ مِنْ نفسِهِ إليها وحيداً
رامياً أصلَهُ غُباراً وَرَسْما
حاملاً عُمْرَهُ بكفَّيْهِ رُمحاً
ناقشاً نَهْجَهُ على القلبِ وَشْما
خالعاً ذاتَهُ لريحِ الفيافي
مُلحَقاً بالملوكِ والدَّهرِ وَصْما
ارتضاها أُبوَّةَ السَّيفِ طِفْلاً
أرْضَعتْهُ حقيقةَ الموتِ حُلْما
قال أبو العلاء : آهٍ أيها الشاعر .. هذه القصيدة لا أجد من يرتديها سوى المتنبي
قال البردوني : أصبت كبد الحقيقة يا أبا العلاء، هذه الأبيات من قصيدة طويلة أسميتها: (وردةٌ من دم المتنبي)
قال أبو العلاء : لله درُّك يا بردوني فشعرك قوي الديباجة يأسر سامعه، هلاَّ أسمعتني أخرى؟
قال البردوني حباً وكرامة أنتزع من لفائف قلبي هذه الأبيات أقول فيها :
وهل تُنْبِتُ الكَرم وديانُنا
ويخضرُّ في كرمنا الموسمُ؟
وهل يلتقي الريّ والظّامئو
نَ، ويعتنق الكاسُ والمبسمُ؟
لنا موعد نحن نسعى إليهِ
ويعتاقنا جرحُنَا المؤلمُ
فنمشي على دمنا والطريق،
يضيُّعنا والدُّجى معتمُ
فمنّا على كلِّ شبر نجيعٌ،
تقبله الشّمسُ والأنجمُ
قال أبو العلاء : إني اسمع في صوتك الحزن ينثال بين أبيات شعرك، وإني أجد الألم قد أثقل كاهلك، فهلاَّ أخبرتني عن ذلك نعم عوفك وطاب أنسك؟
قال البردوني :
لا تسلْ عني ولا عن ألمي
فلقد جلَّ الأسى عن كلمي
وتعايا صوتي المجروحُ في
عنفوان الألم المضطرمِ
ضقتُ بالصمتِ وضاقَ الصمتُ بي
بعدَ ما ضاقَت عروقي بدمِ
قال أبو العلاء: يا عبدالوهاب شاعركم اللوذعي ما هو إلا واحد من شعراء العرب البواقع، الذين ذاع صيتهم شرقاً وغرباً، فشاعريته المكتنزة في لفائف نفسه تنم عن شاعرٍ تملك زمام الشعر، فوالذي نفسي بيده أن شاعركم، يطرب السامع بقيثارة تلين لها القلوب الغُلف، ويأخذك في ثنايا شعره منقاداً تشرب من خمر شعره حلالاً طيباً، ولكن البردوني لم ينلْ حقه من الإنصاف، ولابد أن يأتي من يعرف قدره وينصفه، ولوكان البردوني في عصرنا، لقدمناه على الكثير من شعرائنا.
وبعد رحلة ماتعة بصحبة المعري والبردوني، عدت برواقي إلى أحضان أمي الجريحة اليمن وعاد البردوني إلى بطون أسفاره، وفي طريق العودة التقيت بصديق شغوف بالأدب، ومكثت عنده حتى الفجر نتجاذب الحديث حول البردوني وتراث البردوني، وبعد أداء الفريضة ظهر الضوء الآسر من خلا النوافذ، ولكن رغم جمال الصباح، كانت أزهار الربيع حزينة، وشق ذلك الضوء حجب السماء، وأرسل نوره يغازل أشجار البن، وتلبدت السماء بالغيوم، وأرسلت مزنها العذب يعانق الأغصان الذابلة، وأنا أنظر من أعلى شرفة في الدار رأيت شجرة النخيل المتقادمة، ما تزال على عهدها سامقة. قد تجاوزت أعمار الأجداد، كل يوم، كل عام يمضي نشيخ فيه، ولم تزل شجرة النخيل المتقادمة شابة سامقة تتجاوز أعمارنا المنسية كالأرض اليباب، التي يملؤها الحزن ويطبق عليها الضيم، ومع ذلك يوماً ما سيرفع الحزن ظله الثقيل، وتعود البسمة، التي لا وجود لها سوى في جدار الذكريات، وأقول في نهاية أنعم النظر في تراث البردوني وستجد شاعراً يهز أعماقك، ذهب البردوني وغاب شلوه ، وترك هذه الحياة المتضرمة بالقسوة، رحل وليس عقب، سوى تواليفٌ حسان ، وستظل عزاءً نتداوله وزاداً مرياً، وشراباً سائغاً لا غصة فيه.
وذات يوم وقفت أمام مكتبتي ورأيت أسفار البردوني تسكن تلك الرفوف، بجانب أقرانه من سدنة الشعر على مختلف العصور، وحين هممت بالمغادرة سمعت صوتاً ينادي بني أتنوي الرحيل وتتركني، هلاّ تنزهت في ديواني و قطفت ثمار أفكاري، والتفتُ فإذا بالبردوني أمامي أتأمل ابتسامة وجهه المجدور برهة، ثم علا بصوته ينثر الدُّرر ورأسه يدور يمنة ويسره، فطال عجبي من هذا الباقعة وهو يسرد الشعر المسبوك تارة، وينثر ما أنشده أخرى، ثم قال لي : بني أوصل رسالتي لمن وقف على شعري، وقال : ها كم شعري وبنيات أفكاري، ومعاناة دهري بين أيديكم زبداً رابياً، ولكن من سيأتي ويبقر شعري ويفصح عن خباياه السابحة في وجداني، من سيأتي ويجلي أسرار كلماتي الغائرة في سراديب أعماقي.

قد يعجبك ايضا