وجدي الأهدل

شائعة ضارة بالإبداع

 

 

بين الحين والآخر يدور الجدل حول دور “المعاناة” في دفع الإنسان للإبداع.. بداية هناك خلط بين “المعاناة” و”تجارب الحياة”. الأولى تعرقل الإبداع، وقد تقضي عليه، والثانية تصقل الإبداع، وتساهم في تطويره بصورة صحيحة.
ثمة شائعة منتشرة في الوطن العربي، مفادها أن الإبداع لا يتولد إلا من رحم “المعاناة”، وأن المبدع لا بد أن يعاني لكي ينتج! وهنا تناقض لم أجد له تفسيراً، إذ كيف يمكن لإنسان يعاني من صعوبات حياتية جمة، أن يكون منتجاً؟!
كيف يمكن لشاب موهوب في كتابة الشعر أو القصة أن يتابع مشروعه الأدبي وهو جائع؟! قد يصمد يوماً واحداً، ولكن بعد ذلك عليه أن يفكر جدياً في البحث عن عمل يوفر له لقمة العيش.
رأيي أن هذه الشائعة مغرضة، وربما تعمدت الأنظمة الديكتاتورية نشرها وتكريسها بين العامة والخاصة، لغرض حرمان المبدعين من حقوقهم المالية والمعنوية.
ترى الأنظمة الديكتاتورية أن “الإبداع” خطر عليها، وعلى مشروعها السلطوي، فتسعى إلى محاصرته، وتجفيف مصادره المالية، وتنفير الناس منه، وإهماله وازدرائه، والتقليل من قيمته بالنسبة للمجتمع، وأخيراً ربط الإبداع بـ”المعاناة” في الأذهان، لتوفير المبرر الذي يتحول إلى قانون ساري المفعول: إذا اخترت أن تكون مبدعاً، فعليك أن تدفع الثمن وتعاني.
“المعاناة” على وجهها الصحيح بالنسبة للمبدع هي الصراع اللا نهائي مع الورقة البيضاء، وليس مع المعدة الخاوية من الطعام.
يدخل المبدع في “معاناة” يومية مع الورقة البيضاء، ليكتب شيئاً مبتكراً، شيئاً يجلب المسرة للقراء.
والذي جرَّب هذا الأمر، وذاق أهواله، يدرك أن معاناة عصر الدماغ لإنتاج الروائع الأدبية أشد وطأة على النفس من معاناة الجوع الذي يمكن إسكاته بكسرة خبز.
“المعاناة” بالنسبة للأديب، هي أن يقول جديداً، ليس مرة واحدة، ولكن على مدى الأعوام.
يُذكر أن الروائي العربي (نجيب محفوظ) كان يخصص ساعتين يومياً لمشروعه الأدبي، وهاتان الساعتان، يمكن التخمين أنهما أشق ساعات اليوم عليه، لأنه يقف بمفرده، دون معونة من أحد، في مواجهة الفراغ! وواجبه أن يملأ هذا الفراغ، ويخلق عالماً من الأماكن والأزمنة والشخصيات، وفي حواراته المنشورة ذكر أنه يبقى جالساً على كرسيه، حتى ولو لم يكتب حرفاً، فهو ملتزم بهذا النظام، ويعرف أن الكتابة قد تأتي وقد لا تأتي.. فهل هناك معاناة أشد من هذه؟؟ أن يبقى المرء مقيداً بالكرسي لساعتين يومياً، ثم قد لا يخرج بأية حصيلة على الإطلاق!
كذلك يقول الروائي (غابرييل غارسيا ماركيز) إنه يقضي سبع ساعات يومياً لكتابة خمسة أسطر فقط.. تأملوا هنا مقدار “المعاناة” في اجتراح معجزة الكتابة، حتى أن السطر الواحد يحتاج إلى ساعة ونصف تقريباً لكي يخطه.
وينطبق الأمر نفسه على جميع المبدعين، بغض النظر عن عمرهم وجنسهم وعرقهم، فالإبداع يحتاج إلى صبر وإرادة صلبة، وتدريب متواصل لا يكل على الكتابة، وفوق هذا وذاك امتلاك أعصاب حديدية لمتابعة العمل على المشروع الأدبي أو الفني، حتى ولو لم يحرز نجاحاً أو ينل تقديرا.
وفي حالة المبدع العربي فإن المعاناة من البؤس والفقر لا تدخل في الحساب، ولن تعطيه أي مردود يذكر على صعيد الكتابة والإبداع.

قد يعجبك ايضا