الإرياني في سوق البليلي.. سرد يتلمَّس خبايا الروح الإنسانية

 

الغربي عمران

الأديب عبدالله عباس الإرياني لإبداعه اختلاف.. بداية بغزارة إنتاجه.. فخلال أربع عشرة سنة، أي منذ أول رواية له “بدون ملل” عام 2006م صدر له ما يقارب العشرين عملا.. تنوعت بين الرواية والمسرح والقصة القصيرة، اختلافه أيضا يأتي في تلك القضايا التي عالجها في أعماله.. إذ أنها ذات صلة وثيقة بالمجتمع الذي يعيشه وشخصياته ممن نعايشهم يوما فعند قراءة تلك الأعمال نشعر أنها تمتلك روحا وتكاد تخرج من بين الأوراق.. وتلك الأمكنة تنبض بصخب الحياة اليومية التي تعيشها تلك الشخصيات… وكل ذلك عائد لقدرة الكاتب على حبك تلك الحكايات بشكل مشوِّق.. وتقديمها بحيوية لا تصدق.. هنا ندرك أن سر تلك الحيوية يتمثل في فهم الكاتب بيئته التي يعرف تفاصيلها.. وبذلك ينجح في استدراج القارئ ليتماهى مع شخصيات نصوصه التي رسمها بصدق فني جميل.
في معظم نصوص مجموعته الصادرة حديثا في صنعاء.. والتي احتوت على ما يقارب السبعين نصا قصصيا.. تعمد الكاتب فيها استخدام إيقاع السرد المتسارع -عدا تلك النصوص التي بدأها بشروحات-.داغماً بين الأفعال والوصف الذي تماهى ضمن مسار الأحداث.. ما يبعث على التشويق.. هنا يمكننا اقتطاع جمل من أحد النصوص بعنوان رازم منصور: “عراك دائم بين منصور وزوجته صبورة حول القات. يحتد العراك مع مرور الأيام.. مرورها يعني أن المتطلبات تزداد.. الأولاد يكبرون.. ومنصور موظف حكومي.. مرتبة ثابت…”.
ومن نص آخر بعنوان زمن الإزاب.. وزمن الكلاشنكوف.. نقتص: “وفي تمام الساعة الثامنة من تاريخه.. كانوا يدفعون بالاثنين.. أيديهما مكتفة.. وعيونهما مغمضة قسرا.. إلى مكان مجهول…”.
ومن عودة سالبة:” أنزوت في زاوية من زوايا غرفتها.. يدها قابضة على رأس الجنبية.. وترمق بعينيها خائفة.. تنتظر شيئا ما لا تدري أي كائن هو! منتصب القامة.. أم يسير على اربع! تنتظر المجهول شابة جميلة.. شعرها مرسل .. وجسمها ملفوف بقطعة من قماش ملوَّن.. كانت حجابا لجسم امرأة وما زالت تحجب بعض نساء أزقة صنعاء القديمة.. وخلف الستار.. من على صدرها.. بدا شيء من فستانها العصري.. جمعت بين الأصالة والحداثة.. والجنبية من الأصالة فهل تحميها من الأسلحة الحديثة؟!
سأل نفسه لحظة أن وقف على يمينها.. عيناها تشاهدانهم باباً مرسوماً أمامها.. مكان جميل بقمرياته.. السجاد المفروش على الأرض صنعتها أياد ماهرة.. وعلى الجدران توزعت لوحات أبدعها فنانون من الداخل والخارج.. جمال المرأة والمكان… هل هناك سر وراء هذا المزج البديع؟ عادت بنصفها الأعلى.. ملوِّحة بالجنبية لحظة أن وقف أمامها…”.
ومن خلال تلك النصوص ندرك أن الكاتب يمزج بذكاء بين سرد الأحداث والوصف.. بحيث لا يترك مجال لتطويل الوصف. مستدرجاً القارئ إلى حياة أناس تطحنهم الحياة.. في صراع لا ينتهي.
كما تعددت القضايا التي يعالجها الكاتب في نصوص سوق البليلي.. فالمواضيع الاجتماعية تتنوع من حياة إنسان القاع.. إلى مقايل الصفوة.. ومن نساء الأرصفة .. إلى فتيات الحياة الناعمة. ليرى المتلقي إيقاع حياة عنيفاً ومتسارعاً من كافة زواياه.. وتتعدد ألوان بيئة الشخصيات وضجيج أصواتها .. كما تتماهى الآهات بالضحكات. كما يعالج قضايا سياسية يرمز الكاتب إليها بصورة شفيفة.. غير مباشرة. منتجا نصوصاً تعبِّر عن واقع مرير.
تميَّز الكاتب في هذه المجموعة بأسلوب المزج بين فن المقالة في سرده لأحداث نصوصه وحوار المسرح. فمن فن المقالة صيغ وشروح لبداية بعض النصوص لأفكار يعالجها.. وقد تجلى ذلك في عدة قصص.. مثل بداية نص رزق الحوار: “إذا كانت لكل بلاد سمة تشتهر بها.. فاليمن المعاصر يشتهر بالمقايل المنتشرة على طول البلاد وعرضها.. أشهرها مقايل العاصمة .. القات والحوار وجهان لعملة واحدة.. وهو المقيل، لا يطيب الحوار إلا بالقات.. والقات بدون حوار مثل الطعام بدون ملح بعنوان والنادر لا حكم له.. وحوار المقايل مختلف… “. ومن بداية نص، عطسة الدباب: “الحافلة الصغيرة, المايكروباص, أطلق عليها الشارع اليمني “الدباب” فهو يدب دبيب النمل.. بدون نظام.. فكيفما كنتم يكون دبابكم”. ومن نص لوح الفاقد: “القاعة للأفراح وجميع المناسبات.. متجنبا صاحبها أن يقول: وللمآتم .. المتجنب للضدين.. بيد أنها عمليا للضدين.. والقاعة من قاعتين إحداهما في الدور الأول والأخرى في الدور الثاني.. وأحيانا يكون الضدان في نفس اليوم…”. ومن نص بعنوان.. قات الحوار: “أنا أخزن.. أنا أحاور ..إذا أنا موجود.. الفرق بين الإنسان والحيوان كبير.. منه الحوار بالكلمات.. والحوار على المكاتب المنصوبة.. أو في المقاهي.. أو على الرصيف.. أو في القاعات الفسيحة.. والحوار الأعظم في المقايل المنتشرة على طول اليمن وعرضها…. “. وهكذا يستمر الكاتب لما يقدر بالصفحة أو الصفحة والنصف.. ثم يدخل في سرد الأحداث. ومعالجة الفكرة المحورية للنص.
كما تجلَّت لغة الكاتب بمزجه بين الفصحى ولغة الصحافة.. مطعماً لها بالمحلية.. من مسميات وأفعال.. وصفات.. مثل “صميل”.. “مابش”.. “الإزاب”.. “رازم”..محواش.. خبلان…إلخ تلك المفردات، ما يشعر القارئ بمشاركته أجواء تلك النصوص وبيئتها.
ينقلنا الكاتب من نص إلى آخر.. تارة نجد أنفسنا بين روَّاد مقايل القات.. وما يدور فيها من حوارات سياسية واجتماعية.. إلى ابرام الصفقات.. وحوارات في الدين والتابوهات..هادما للكثير من تلك المسلمات التي تكبِّل المجتمع.. مفسحاً الطريق لقيم جديدة تحل محل تلك العوائق الاجتماعية المستشرية.
يختار المكان بعناية كمسرح لأحداث تتطوَّر.. في مجتمعات تقاطعات الشوارع.. حيث أسراب المتسولين والباعة الجائلين وماسحي العربيات.. إلى سوق القات واكتضاضه وضجيجه المتواصل.. الى قاعات المناسبات.. وطوابير صالات البريد.. إلى ممرات المول.. وأزقة صنعاء العتيقة وأسواقها.. من يجلسون على الأرصفة ومقاعد المقاهي من المتقاعدين. إلى معاناة حاملي بطائق التموين التي عممت على موظفي الدولة.. إلى حرق التالف من العملة في البنك المركزي.. إلى معاناة موظفين أحيلوا إلى التقاعد.. إلى تلك المناسبات والاعياد التي تمثل هما على رب الأسرة.. ومن عالم التسوّل وما يدور فيه.. إلى تصرفات العسكر والمتسلطين.. وما يدور في معتقلات السلطة… عوالم نصوص الإرياني شيِّقة.
نصوص سوق البليلي ضاجَّة بروائحها وصخب شخصياتها.. وتلك الغرائز التي تسيِّرهم.. ودوافع وما ينتج عنها من تطوِّر للأحداث وتنامي الشخصيات. حيث وللكاتب حس فني في اقتناص أفكار نصوصه.. إذ يختارها بعناية.. ليترجم معاناة وتطلعات المجتمع.
الكاتب صاغ بعض نصوصه.. كقصص حوارية.. ذلك الحوار المختصر بين المتحاورين.. ويعد ذلك من أدوات المسرح الرئيسية.. حوار يظهر مكانة الشخصية وثقافتها.. نصوص خالية من الوصف.. تصل بالقارئ إلى آفاق الإدهاش .. مثل نص بعنوان “لوح راجح المضحك” إذ يبدأ الكاتب بعدة أسطر يصف ذهاب “راجح” الزوج ببقرة زوجته إلى السوق ولا يعود بها.. بل يعود حاملا لوحي الطاقة الشمسية.. عندها تستقبله زوجته الريفية:
” –مرحبا وحيا “راجح”.. أيش اديت لنا؟
ابتسامتها وترحيبها…! كاد يطير من خوف مكبوت.
وضع لوحين أمامها.. ثم قال:
– أديت لكم ذي عينور ليلكم!
– ليلنا وبقرتنا.
رد مستخفا:
– البقرة بعتها واشتريت بدلها نور عينور ليلنا.
سقطت فسحة وقت مرتدة غضبا جامحا.. ملوِّحة بالمنجل أمام وجهه.. قائلة:
– والشريم ايش اعمل بينه.
لمع في عينيه شيء من الخوف كان مكبوتاً.. وعاد خطوطاً رفيعة.. وهو يقول:
– ارجميه وافتهني.
– افتهن…! ما كانت فهنتي إلا مع بقرتي.. هاه يا راجح وأنت تشتي تفتهن والله ما تشمها…..”

وهكذا استمر الحوار بين الزوجة وزوجها حتى نهاية القصة.
في هذا النص يعالج الكاتب ما يعيشه سكان القرى في ظل حرب مستعرة.. من انعدام للخدمات الضرورية.. فلا كهرباء ولا مشاريع مياه .. ليبيع راجح بقرتهم ويشتري بقيمتها ما يوفِّر الإنارة لمنزلهم.. النص يحمل مسحة ساخرة .. تتجلى من خلال الحوار بين الزوجين.. وتلك المفارقة حين تفقد الأسرة بقرتها مقابل ألواح شمسية.
هذا النص الحواري ليس الوحيد .. فقد هيمن الحوار على معظم النصوص وإن بنسب متفاوتة، ولهذا نجد الحوار ركيزة أساسية في أسلوب الكاتب.
مع نهاية هذه المقاربة كان علينا ذكر عدة نقاط لأهميتها.. منها استخدام الكاتب للترميز في عدة نصوص.. وكذلك تلك المفارقة المدهشة في المضمون.. مثل نص بعنوان “بين زمنين”. حين يقدم للمتلقي سواق سائق حافلة يتباهى بهراوته “الصميل”.. معلنا أنها أداته لقمع أي مشاغب.. لنعرف من سياق النص أن اسم صاحب الهراوة “وديع”.. وقد أسماه والده عند ولادته تيمناً بشخصية الفنان وديع الصافي.. متمنيا أن يكون ابنه في مستقبل أيامه فناناً.. لكنه ينشأ ليكون حاملاً هراوة.. بدل آلة موسيقية. نقطة أخرى أجادها الكاتب تتمثل في تنوع مواضيع نصوصه.. كوكتيل قدَّم من خلاله نبض مجتمع بكافة شرائحه وطبقاته.
ودوما ننتظر الإرياني من عمل إلى آخر.. ومن خلال تلك الأعمال السردية نكتشف أنفسنا.. ونتلمَّس أعماق ذواتنا.

قد يعجبك ايضا