وقائع التاريخ تؤكد حقيقة وهن الانقسام وقوة الالتحام

الأهم من الاستقلال : درس الاحتلال

 

 

ذكرى الاستقلال تعيد إلى الواجهة عواقب الانقسام والتفريط باستقلال القرار والسيادة
ظروف العدوان السعودي وقواته الغازية ومرتزقته .. تكرار للاحتلال البريطاني
مقايضة طامحي الحكم السيادة بشرعية حكمهم أوجدت الاحتلال وأدامته 128 عاما
الثلاثون من نوفمبر أجهض أحلام بريطانيا في فرض وصايتها الدائمة على جنوب اليمن

تحل ذكرى تحرير جنوب اليمن وانتزاع مسيرة النضال اليمني بالاستقلال الوطني وجلاء الاحتلال البريطاني؛ في ظل ظروف تجعل الأهم من الاستقلال، بنظر مراقبين، دروس الاحتلال نفسه: كيف وقع؟.. وكيف دام طوال 128 عاماً؟.. وكيف تسنى بعد هذا الدوام، قهر قوات الاحتلال ودحرها؟!.
“التمزق يسود هذا الجزء من العالم العربي، فكل ملك أو سلطان أو شيخ يقف وحيداً على مساحته منعزلاً عن الغير، أما الاتحاد والتعاون فكان مما ذهب مع الريح”. قال يعقوب، بعبارة واضحة وصريحة، في توصيف حال المنطقة العربية وجنوب اليمن قبل 181 عاماً مضت.

الثورة/ إبراهيم يحيى


يعقوب ليس مدرس محفوظات وطنية بمدرسة يمنية، بل ضابط بريطاني شهير، يدعى هارولد جاكوب، عمل نحو 24 عاماً في عدن وفي ما عرف بـ “محمياتها الشرقية والغربية” وشغل منصب المساعد الأول للمندوب السامي البريطاني، ولعب دوراً بارزاً في الحرب العالمية الأولى، خصوصاً في شؤون الجزيرة العربية.
كان الكولونيل (العقيد) هارولد جاكوب (يعقوب) يجيد اللغة العربية بتفوق وعلى معرفة بآدابها وعلوم القرآن والحديث، وخبيرا في الشؤون السياسية عموماً والعربية خصوصاً، وأصدر في 1923م مؤلفه “ملوك شبه الجزيرة العربية”، أحد أهم مصادر التاريخ لحقبة التدخل الإنجليزي في العالم العربي.
ثغرة التمزق
أدركت إمبراطورية بريطانيا فاعلية قانون “الاتحاد قوة” فاعتمدته في نشأتها باتحاد انجلترا وويلز واسكتلندا (1707م) ثم ايرلندا الشمالية (1801م)، وفطنت إلى أن بلوغ أطماعها التوسعية وفرض هيمنتها على منابع الثروات الطبيعية وطرق الملاحة الدولية، لن يتأتى إلا بأعمال نقيضة “فرق تسد”.
استطاعت إمبراطورية بريطانيا بسط هيمنتها على ربع كوكب الأرض ونشر نفوذها التجاري فالعسكري في آسيا وأفريقيا، انطلاقاً من خاصرته اليمن وتحديداً عدن، عبر اللعب بالتناقضات واستغلال طموحات القوى المحلية في الحكم والرياسة، ووجدت ضالتها في جنوب اليمن.
تفريط سياسي
كان اليمن لا يزال يفتقد الدولة المركزية إثر دحر الاحتلال العثماني الثاني، وصراع الثائرين ضده على الحكم، ما شجع زعامات قبلية في جنوب اليمن إلى الانشقاق بالحكم في نطاقاتها الجغرافية تحت مسمى سلطنات ومشيخات وإمارات، وجدت بريطانيا في حاجاتها للشرعية، فرصة للتغلغل.
وكما فعلت مع الصين والهند، بدأت شركة الهند الشرقية البريطانية إبرام معاهدات تجارية مع سلطان لحج وعدن العبدلي، لفتح وكالة تجارية في ميناء عدن ثم استئجار الأخير، لكن الهدف ظل احتلاله لحسم صراع المنافسة الأوروبية على طرق الملاحة بين مواطن الثروات ومصانع الإمبراطوريات.
لكن وبرغم الاختلاف في بيع السلطان العبدلي عدن من عدمه، إلا أن المؤرخ الراحل عبد الله محيرز، ينقل عن مصادر أجنبية، أن “الإمبراطورية العثمانية كانت أصدرت فرمان تنازل للإنجليز عن عدن”. وأن “قوة عسكرية بريطانية كانت قد أقامت في عدن قبل احتلالها بأربعين سنة”.
كما ينقل محيرز في كتابه “العقبة” أن قائد الغزو “هينس طلب من السلطان تسليم عدن ولكن خوفه من قبائله منعه من تسليمها علنا حتى لا يشاركوه فيما كسب من جراء هذا التسليم، وطلب أن يعطى بالمقابل ماهية أسوة براجات الهند، ووعد في النهاية أن يسلمهم عدن عندما تصل قوة عسكرية لأخذها”.
خديعة الصديق!!
ذلك، ما حدث صباح 19 يناير 1839م، حين استفاقت عدن على قصف مدفعي كثيف وغير متوقع من صديق “تجاري”، نفذته بوارج بريطانية إيذانا لاحتلال المدينة، بذريعة نهب سفينة تجارية هندية بريطانية (دوريا دولت)، تحطمت في مياه خليج عدن، ورُفض عرض تجزئة تعويض قيمة حمولتها.
لم يكن الهجوم هو الأول على عدن، لكنه بحسب المؤرخ سلطان ناجي، كان أول هجوم مزدوج من البحر والبر، جاء خلاصة ثلاث سنوات من دراسة المدينة وتحصيناتها، ورغم المقاومة اليمنية الباسلة وصرعها العشرات من جنود الغزو، إلا أن الغلبة كانت لفارق العدة والعتاد، وعامل المباغتة الغادرة.
خيانة الداخل
كان يمكن وكما ظل يحدث، دحر الغزو عبر المقاومة اليمنية التي استمرت قوية وعنيفة متقطعة، وفق المؤرخ عبدالله محيرز، لولا “التآمر والخيانة” واحباطهما المقاومة التي لم تكن موحدة، بفعل حال تمزق اليمن بين كيانات وزعامات جهوية، طامحة في الحكم وتبحث عن حماية.
يضيف المؤرخ الراحل عبد الله محيرز فترة احتلال عدن بأنها “كانت فترة دولية عصيبة. عصفت بالغرب حمى الاستعمار والغزو، وإخضاع الشرق كلها لها. والسيطرة على المسالك البحرية إليه. أما بالنسبة للجزيرة العربية وجيرانها، فقد كانت الحال محزنة ومريعة”.
يضيف: “فالجزيرة (العربية) مشغولة بالحروب الوهابية، يحاربها محمد علي باشا بضراوة، ويراوغ الدول الأوروبية، والدولة العثمانية التي بدأ يصفها الغرب بالرجل المريض. وأما اليمن، فشماله تحت إمام ضعيف مات مخلوعاً وبلغت الفوضى في جنوبه أقصاها”.
وفي هذا “الجو المشحون بالفتن والدسائس والأطماع، والمشبع بروح التآمر والخيانة” وفقاً لمحيرز “احتل الإنجليز عدناً مصممين على الإبقاء عليها مهما كلف ذلك من ثمن. وعندئذٍ فقط، أدرك اليمن كله فداحة الكارثة. وبدأت فعلاً سلسلة من المقاومات العنيفة لاستعادة المدينة، ولكن بدون جدوى”.
عن هذه المقاومة، ينقل المؤرخ سلطان ناجي في مؤلفه الهام “التاريخ العسكري لليمن” عن وثائق بريطانية، أن “مقاومة اليمنيين المسلحة للوجود البريطاني استمرت مشتعلة الأوار خلال الخمس عشرة سنة تقريباً من حكم هينس. فالبريطانيون لم يستولوا على عدن إلا بعد مقاومة عنيفة وشرسة”.
ويخلص إلى أنه “بسبب التحصينات العظيمة لمدينة عدن ونوعية أسلحة البريطانيين ومعرفتهم نوايا الحملات اليمنية وتحركاتها مسبقاً بواسطة جواسيسهم في لحج؛ لم ينجح اليمنيون في استرداد عدن،..” حتى بعد فرض اليمنيين حصارا كاملا على عدن دفع الإنجليز للتفكير جدياً في الجلاء عنها نهائياً.
شرعية الخارج
مع ذلك ظلت خيانة قوى الداخل عونا للخارج، واستجدائها شرعيتها منه مقابل السيادة، بحسب أستاذ التاريخ في جامعة عدن د. نصر سالم هادي، الذي يحصر في دراسة منشورة له الأسباب الرئيسة التي ساعدت الاحتلال البريطاني لعدن في “الصراعات الداخلية وقيام دويلات ضعيفة لم تستطع الدفاع عن سيادة اليمن”.
نجحت سلطات الاحتلال البريطاني في إخماد المقاومة عبر تعميق التمزق وتوسيع التفرق، واستطاعت توقيع اتفاقيات مع الكيانات الجهوية الطامحة في الحكم، تضمن اعترافاً متبادلاً بالشرعية وحماية مشتركة، مقابل استقلال شكلي محلي بالحكم ومشاهرات (مرتبات) دائمة لزعمائها ونسلهم من بعدهم.
الاتفاقيات التي أوجدت ما عُرف بـ “النواحي التسع” ابتداء من العام 1873م، شملت أيضاً بيع زعامات هذه النواحي مساحات شاسعة من الأراضي للاحتلال البريطاني، وفرت جيوباً لتأمين سيطرته على عدن، قبل أن يسعى لتعميدها بتوقيع اتفاقية ترسيم حدود مع المحتل التركي لشمال الوطن، عام 1914م!!.
في هذا، تورد المصادر، ومنها دراسة منشورة لرئيسة فرع هيئة الآثار في عدن سابقا الدكتورة رجاء باطويل، أن سلطات الاحتلال البريطاني استطاعت بالترغيب والترهيب الاستحواذ على منطقة خور مكسر في 1849م، وعدن الصغرى في 1869م والشيخ عثمان في 1882م، والحسوة في 1888م.
تآمر الحلفاء
ولما ظلت مقاومة شمال الوطن عقب تحرره من الاحتلال التركي الثالث مصدر خطر؛ عمدت بريطانيا إلى دعم إقحامه في حربين مع الإدريسي في عسير، وآل سعود في الشمال، ووقعت مع الإدريسي معاهدتي 1915 و1917م “وقدمت له الأسلحة والذخيرة من دون شروط”، بحسب المؤرخ هارولد جاكوب.
عمدت بريطانيا إلى فتح هاتين الجبهتين في آن لكبح تقدم الحملة العسكرية للإمام يحيى التي وصلت إلى الضالع. ويذكر جاكوب أن “الإمام كان يسكن داخل البلاد وعلى بُعد مائة وخمسين ميلاً من الساحل، .. وقد كان الفوز عليه مستحيلاً تقريباً نظراً لطبيعة البلاد الجغرافية”.
يضيف الكابتن هارولد جاكوب: “وفيما يتعلق بموقف الإمام منا فإنّ الروح كانت راغبة ولكن الجسد كان ضعيفاً، وعلى المرء أن يلقي نظرة ولو سريعة على تاريخ الإمام وعَلاقاته السابقة مع الأتراك ليتأكد بأنّه كان أكثر من أي حاكم عربي آخر يمكن وصفه بالخصم العنيد”.
نجحت بريطانيا بهذه المؤامرة المحكمة، في تلبية ما سماه الكابتن هارولد “اختبار حلفائنا واكتشاف أعدائنا”، وإرغام الإمام يحيى على التسليم باتفاقية الحدود البريطانية التركية، وهو ما كان بتوقيع الإمام يحيى معاهدة هدنة مدتها 40 عاماً، ومعاهدة الطائف مع آل سعود، في 1934م.
تجزيء المجزأ
تطلب دوام الاحتلال البريطاني، مزيداً من الإعلال لقوة اليمن، فعمدت بريطانيا إلى الإيغال في سياسة “فرق تسد”، وتجزيء المجزأ، وبعدما كانت كيانات جنوب اليمن تسعاً، صار عددها 23 كياناً حاولت فصلهما عن اليمن إلى الأبد، بتوحيدها في إطار دولة شكلية خاضعة لمعاهدة وصاية بريطانية كاملة.
ألزمت نصوص المعاهدة سلطنات وإمارات جنوب اليمن بالولاء المطلق لملكة بريطانيا ومندوبها السامي، وإتاحة أراضيها ومياهها وأجوائها للقوات البريطانية، وامتناعها عن أي علاقات خارجية من دون الرجوع لبريطانيا أو إضافة عضو لاتحادها من دون مصادقة الملكة، وغيرها من البنود المهينة.
لكن اتحاد اليمنيين في ثورتي 26 سبتمبر 1962م و14 أكتوبر 1963، نجح في التحرر من أسباب الحرمان والهوان وفي مقدمها التشطير، وأفشل مؤامرة الاحتلال البريطاني وأنهى وصايته وهيمنته على جنوب اليمن، بإجهاض مشروعه التآمري الذي عنونه باسم “اتحاد الجنوب العربي”.
خلاصة الدرس
دروس عدة، تستدعيها ذكرى انتزاع الاستقلال الوطني من الاحتلال الأجنبي، لعل أهمها، تأكيد حقيقة وهن الانقسام وقوة الالتحام، لأي مجتمع وشعب، في كل زمان ومكان، وأن قوة اليمن ظلت عبر التاريخ في اتحاد أيدي أبنائه وكلمتهم، وضعفه ظل في تفرق أيديهم وكلمتهم، وأن التفريط بالجزء يتبعه الكل.
لكنها دروس لم تستوعب، كما ينبغي، بدليل تشابه ظروف الاحتلال البريطاني لمدينة عدن وجنوب اليمن، وظروف العدوان السعودي على اليمن وقواته الغازية ومرتزقته واحتلالها عدن، من ناحية الأطماع، وعملاء الداخل، واستجداء شرعية الحكم من الخارج على حساب التفريط بالسيادة، والصمت الدولي، حياله.
مع ذلك، يظل الثابت، عبر الأزمان، كما هو اليوم، أن اليمن لم يخضع لاحتلال أجنبي إلا حين تمزقت قواه وتفرق شعبه وخيانة بعض نخبه، مثلما تقر بأن اليمن لم يبلغ أوج حضارته ويردع الطامعين فيه وموقعه، إلا باتحاد قواه وتوحد إرادة شعبه ووحدة إدارتهم، على كلمة سواء، عنوانها السيادة والعدالة.
لتفاصيل أوفر، راجع:
– “ملوك شبه الجزيرة العربية”، هارولد جاكوب.
– “التاريخ العسكري لليمن 1839-1967م”، سلطان ناجي.
– ” العقبة”، عبد الله أحمد محيرز.
– “الاهتمام بعدن كمدينة تاريخية”، د. رجاء صالح باطويل.
– “عدن الموقع الاستراتيجي أهميته التاريخية والمنافسة الدولية للسيطرة عليها”، د.نصر سالم هادي.
– “اتحاد الجنوب العربي”، صلاح البكري.

قد يعجبك ايضا