اليمن.. بين حديث النبي وواقع ميادين المواجهة

القاضي/ بشير الشامي

 

حين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية»، لم تكن تلك العبارة مجرّد مديح عابر لأهل اليمن في زمنٍ مضى، بل كانت نبوءةً ممتدة عبر العصور، يحققها الله في واقعٍ يشهد له التاريخ اليوم في وجه العدوان والطغيان.

لم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحديث ليُذكر في كتب السيرة فقط، بل ليكون شاهدا على أمّة تؤمن حين ييأس الناس، وتثبت حين تتساقط الرايات، وتقاوم حين ينام الآخرون.

وها هو اليمن اليوم — في زمن تاهت فيه البوصلة وضاعت القيم — يترجم الحديث قولاً وفعلاً، إيمانا وحكمة، عقيدةً وموقفا، وسيفا وميدانا.

ولقد وردت في فضل اليمن وأهلها أحاديث كثيرة، منها قوله :

((الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية، والفقه يمانٍ)) (رواه البخاري ومسلم).

وفي حديث آخر قال ﷺ:

((أتاكم أهل اليمن، هم أرقّ أفئدةً، وألين قلوباً، الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية)) (رواه مسلم).

وقال أيضاً:

((نَفَسُ الرحمن من قِبَل اليمن)) (رواه أحمد والطبراني).

وفي رواية أخرى قال:

«اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا” (رواه البخاري).

لنتأمل كيف جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الإيمان واللين والحكمة والبركة في وصفه لليمن، وكأنّه يرسم للأمة خريطة الروح حين تضلّ طريقها ليقول: إذا أردتم أن تعرفوا الإيمان في زمن الفتنة فانظروا إلى اليمن، وإذا أردتم أن تلتمسوا نَفَسَ الرحمن حين يشتد الكرب فانظروا إلى اليمن .

وها هو اليمن اليوم يواجه عدوانا عالميا منذ أكثر من تسع سنوات، تتكالب عليه قوى الاستكبار، ويُفرض عليه حصارٌ بريّ وبحريّ وجويّ، ومع ذلك لم تنكسر إرادته ولم يضعف إيمانه.

بل خرج من تحت الركام أكثر صلابةً وثباتا، يُعلن أن الإيمان ليس شعارا يُقال، بل موقفا يُصاغ في الميدان.

فحين صمت كثير من العرب والمسلمين عن المجازر في غزة، كان اليمن يرفع صوته عاليًا: “لن تُرفع الراية البيضاء في صنعاء ما دامت تُرفع رايةُ المقاومة في فلسطين.”

أرسل رسائل الصواريخ والطائرات المسيّرة من البحر الأحمر إلى عمق الكيان الصهيوني، وقال للعالم: “من اليمن يخرج اليوم نفسُ الرحمن نصرةً للمستضعفين.”

وهكذا تحقّق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «نفسُ الرحمن من قِبَل اليمن».

فأنفاس الإيمان التي هبّت من جبال صعدة وتهامة والحديدة وصنعاء وغيرها ليست إلا نسائم رحمة على غزة وأهلها، وسياط عذاب على المعتدين الطغاة.

لم تكن مقاومة اليمن عشوائية ولا انفعالية، بل تجلّت فيها الحكمة اليمانية التي وصفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجمعت بين الصبر والبصيرة، بين الإعداد العسكري والوعي السياسي، بين الإيمان بالقضية والقدرة على إدارة الموقف.

قيادة صنعاء لم تُستدرج إلى حروب جانبية، ولم تضع البوصلة في غير موضعهاـ عرفت أن المعركة الكبرى هي مع أمريكا وإسرائيل ومن يواليهم، وأن كل معركة دون ذلك ما هي إلا إلهاء عن المعركة الأم.

وهذا عين ما تعنيه الحكمة اليمانية.. أن تعرف متى تقاتل ولماذا وضد من.

فاليمن اليوم أحد أهم أعمدة محور المقاومة، يربط بين جنوب الجزيرة العربية وبلاد الشام، ويمتد إيمانه عبر البحر الأحمر إلى فلسطين ولبنان والعراق وإيران.

هو القلب الذي يضخّ روح الصمود في جسد الأمة، وهو السيف الذي يضرب حيث يُراد إذلالها.

لقد أصبحت مضائق اليمن خطوط مواجهة مفتوحة في معركة الأمة ضد الاحتلال.

وما فعله المجاهدون اليمنيون في البحر الأحمر ليس عدوانا، بل تطبيق عملي لواجب النصرة الذي أمر الله به في قوله تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ [الأنفال: 72].

الإيمان اليماني تجلّى في مظاهره الإيمانية والاجتماعية أيضا … في وحدة الكلمة رغم الحصار.. في صبر الأسر والشهداء والجرحى.. في التكافل المجتمعي الذي جعل من اليمن نموذجًا للصبر الجماعي والإيثار.

لقد سقطت دعاوى العروبة الزائفة، وبقي الإيمان اليماني الأصيل.. وبات اليمن اليوم منارة للثبات، وصوتا للحق، ومهدا لنهضة الأمة القادمة.

ذلك هو نَفَسُ الرحمن الذي يهبّ من اليمن ليغسل عن وجه الأمة غبار الخنوع والخيانة.

من يتأمل الواقع اليوم، يدرك أن أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن اليمن تتحقق أمام أعيننا..

فطوبى لليمن أرض الإيمان والحكمة ومهوى نَفَسِ الرحمن.

وطوبى لأبنائها الذين صدقوا الوعد وكتبوا بدمائهم صفحة جديدة من صفحات الإسلام العزيز.

ومن صنعاء الإيمان إلى غزة العزّة، يلتقي الخط الإيماني في وعد إلهيّ لا يتبدّل

﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ الله لقوي عزيز﴾ [الحج: 40].

قد يعجبك ايضا