البردوني وهمس الحروف

 

سعيد شجاع الدين

في ديوان الشاعر عبدالله البردوني تلتقي الكلمات لتصنع عالم الشاعر في أقل من طرفة عينٍ، هكذا أسمع همس الحروف التي لا تكاد تغادر قاموس اللغة حتى تتفتح لها حيوات أخرى في ظلال المعاني، حيث لا معنى يتراءى للقارئ إلا هناك في قريةٍ نائية تحسن الأصغاء إلى نشيد الوقت. إنه أنت إذن تُحدِّثُ نفسك في هكذا ليلة قد لا تشبه “ليالي الجائعين” ؟!
؟أنت هو من “أرض بلقيس”، أليس كذلك؟. لا تقل هذا أرجوك فقد يلزمك البعض الحِجَّة بقوله ” هذه أرضي”، عندما تحاول عبثاً الرحيل، تتنفس عبير الكلمةِ، تُكسَّر الصمت المحدِّق في عيون الفراغ، “في الليل” هُنا . ألست القائل في كوخ الجائعين:
“لا مشفق حولي و لا إشفاق إلا المنى والكوخ والإخفاقُ
البردُ والكوخ المسجَّى والهوى حولي وقلبي والجراح رفاقي
وهنا الدجى يسطو على كوخي كما يسطو على المستضعف العملاقُ
فلمن هنا أصغي؟ وكيف؟ وما هنا إلا أنا والصمتُ والأطراقُ”
حسناً، هل هذا كل ما يتراءى لك في الليل شاعرنا؟. ماذا عنك و أنت “تحت الليل”؟!
حالك لا يختلف كثيراً، فـ لطالما خاطبت السائل :
” لا تسل عني ولا عن ألمي فلقد جلَّ الاسى عن كلِمي
وتعايا صوتي المجروح في عنفوان الألم المضطرم
ضقتُ بالصمتِ وضاق الصمتُ بي بعدما ضاقت عروقي بدمي
فدعْ التسآل عمَّا بي فقد ؟ألجمتْ هيمنةُ الصمتِ فمي”
– إنه في إصراره لا يختلف عنه كثيراً في هدوئه. أو “هكذا قالتْ” . مَن هي؟
إنها “ليالي الجائعين” ـ مرّة ثانية ـ كما يحكي عنها (مغنَّي الهوى) حين يُقدّم (ترجمة رملية .. لأعراس الغبار) .! نعم إنه الغبار “آخر الموت”، بعدها يطلُّ النفي برأسه :
” ليس بيني و بين شيء قرابهْ عالمي غربةٌ زماني غرابهْ
ربما جئتُ قبلُ أو بعدَ وقتى أو أتت عنه فترةٌ بالنيابهْ”875
– قد يقول قائل: لماذا كل هذا التشاؤم؟ أهي لعبة الشعراء؟ أم أنها الحقيقة تكشفُ. أسمعُ صوتاً: اسكتْ اسكتْ. ثُمَّ أواصل: تكشف عن ماذا؟. أنا لا أريد القول إنها تكشفُ عن ساقيها، فهي قطعاً لا تنوي إغراء الشاعر حقيقةً، إذ هو ثابتً على موقفه كما نعهده، ولن يتزحزح قيد أُنملة. ورأيه في العالم يلخصه في قوله:
“أمطر الغربُ على الشرقِ الشقا وبدعوى السَّلم أسقاه الحماما
فمعاني السلم في ألفاظه حيلٌ تبتكر الموتَ الزؤاما”63
– ولأجل ذلك وجد نفسه يعيش في “زمان بلا نوعية”، دائماً يسيرُ وفي فمه (أغنية من خَشَب)، ولا نظن أنه يقول “أنا الغريب”158، ليُبرر غربته، يشرحُ، يوضّح:
” أنا وحدي الغريب وأهلي عن يميني وأخوتي عن يساري
وأنا في دمي أسيرٌ، وفي أر ضي شريدٌ مقيد الأفكارِ
وجريح الإبا قتيلُ الأماني وغريبٌ في أمتي ودياري
كل شيء حولي عليَّ غضوبٌ ناقمٌ من دمي على غير ثارِ
– الآن ـ فقط ـ يتلفت يمنةً ويسْرة. : ما هذه البيوت؟ يُجيبه الشاعر:
“هذي البيوت الجاثمات إزائي ليلٌ من الحرمان والادجاء
مَن للبيوت الهادمات كأنها فوق الحياة مقابر الأحياءِ
تغفو على حلم الرغيف ولم تجدْ إلا خيالاً منه في الاغفاءِ
وتضمُ إشباح الجياع كأنها سجنٌ يضم جوانح السجناءِ
وتغيب في الصمت الكئيب كأنها كهف وراء الكون والأضواءِ
خلف الطبيعة والحياة كأنها شيءٌ وراء طبائع الأشياءِ
ترنو إلى الأمل المولي مثلما يرنو الغريق الى المُغيث النائي
وتلملمُ الأحلامَ مِن صدرِ الدجى سوداً كأشباح الدجى السوداءِ”
أوااه: لماذا البيوت تحديداً؟ ألم يكن كافياً الإشارة الى ساكنيها. لماذا هؤلاء؟ سمهمْ بأسمائهم . لقد ذكرتَ لنا أحوالهم، وظللتَ تؤكِّد ما أنت عليه، ولسان حالك: “إلا أنا وبلادي”584، ولاتزال لُغتك أيها الشاعر هي هي. تضعنا بين نارين تُنسينا ما نظنها لحظة الاقتراب مِن (أسمار القرية)، فهي البلدة التي تغنيت بجمالها كثيرا. لكن أيّ جمالٍ هذا الذي تخدشه الأسماء المقيَّدَة في (584):
“تسلياتي كموجعاتي، وزادي مثل جوعي، وهجعتي كسهادي
وكؤوسي مريرةٌ مثلُ صحوي واجتماعي بإخوتي كانفرادي
والصداقات كالعداوات تؤذي فسواءٌ من تصطفي ؟او تعادي
إن داري كغربتي في المنافي واحتراقي كذكريات رمادي
يابلادي التي يقولون عنها: منكِ ناري ولي دخانُ اتّقادي
ذاك حظَّي لأن أمي (سعودٌ) وأبي (مرشدٌ) وخالي (قمادي)
أو لأني دفعتُ عن طهرِ إختي وبناتي مكرَ الذّئاب العَوادي
أو لأنّي زعمتُ أن لديها لي حقوقاً من قبل حق (ابن هادي)”
– ما هذا؟! لقد عاد “دوي الصمت” من جديد، به نتمكن من معرفة الليالي، وتبقى المنازل هي المعبرة. ألستَ القائل:
” هذي البيوت النائمات على الطوى نوم العليل على انتفاض الدائي
نامت ونام الليل فوق سكونها وتغلفت بالصمت والظلماءِ
وغفتْ بأحضان السكون وفوقها جثث الدجى منثورة الاشلاءِ”
– الآن بدأنا نفهمُ. فأنت بالأول وصفت لنا تلك البيوت الجائعة، وما يعتمل بين الجدران، حيث الجوع بأنواعه كافة هو المسيطر
، لتكون أمامنا صورة صادقة، تنقلنا إلى القسم الثالث من القصيدة، حيثُ نمضي سوياً: ننادي، نخاطب الليل، نستمع إلى شهادته، نحدد المسافة بيننا وبينه وبينه والشاعر الذي نجده في الليل يؤكد وحدته:
“أغفى الوجود ونام سمارُ الدجى إلا أنا والشعرُ والأشواقُ
وهنا الدجى يسطو على كوخي كما يسطو على المستضعِف العملاقُ
فلمنْ هنا أصغي؟ وكيف؟ وما هنا إلا أنا، والصمتُ، والإطراقُ
وحدي هنا في الليل ترتجف المنى حولي ويرتعش الجوى الخفَّاقُ
وهنا وراء الكوخ بستانٌ ذوتْ أغصانه وتهاوت الأوراقُ”
– لكنه الليل (قيل يغشى بيوت صنعاء صباحاً). قلتَ صباحاً!! رجاءً قف بنا يا شاعرنا عند هذا، فالوقت يداهمنا والبعض لديه الرغبة لمعرفة “علامات العالم المستحيل”، الذي خصصت له مساحة لا بأس بها، في “أعراس الغبار”. وهي مساحة متماهية تعكس (هذا اليأس) الذي ظهر تالياً، تحت عباءة السؤال، أو قل (عباءة الإفلاس)، ويستمر السؤال:
“تُرى: من أين مأتاه؟ وما يطوي من الوسواس
أراه فوق مَنْ قاموا وتحت ملامح الجلَّاس”1053
– يا شاعرنا: إذا كانت المسألة مسألة ملامح فيكفينا ما تفضَّلتَ به عن: جيران كوخك، مع الليل، والنداء (المرّ):
ياليل مَن جيران كوخي؟ مَنْ همُ مرعى الشَّقا و فريسة الأرزاء
الجائعون الصابرون على الطوى صبر الرٌّبا للريح والأنواء
– أخيراً ماذا لو اقتربنا من صحبك، و سألناكم: مَن القائل وما المناسبة، وهو سؤال على شاكلة ما يُطرح في المدارس، يقولُ الشاعر:
(متعَباتٌ خُطاي على الرمل
مرهَقةٌ كلماتي،
كأنَّ الحروفَ مُدىً و دماملُ،
موغلةٌ في عروقي
تمزّق صدر النهار
تضاعف من زحمة الليل “تشرخني”)ُ
إلى هنا… نجد أن الصمت يحدّق في وجوهنا , كأني به ، لا أدري ما أقول غير أني كنت أود أن استنطقك في بعض القضايا.. ف إلى لقاء آخر حيث همس الحروف يعلو، ولا شيء، إلا واحدة من أكثر اللحظات حدة حين ينطفئ الحرف، ويوشك اللسان أن يبيح بما عنده، لو أنه يستطيع لفعل ما كان يرجوه، لكنها الحتمية تضعنا في مواجهة من لا نريد –أحياناً- ويمتشق الحرف، يخرج من بين أصابعه يشق طريقه، ليجعل الكلمة أداة للتمرين على الهذيان خارج دهاليز الكتابة، وتكفينا الإجابة لنبحث سويا عن إجابة شافية، لنوع من الدردشة بعيداً عن الجوائز.. وكفى.

قد يعجبك ايضا