عالم متغيِّر ضمن حقائق وأخطاء وأكاذيب السياسة والاقتصاد

 

عرض/ خليل المعلمي

لقد أصبح عالمنا متغيِّراً من عام إلى عام ومن عقد إلى آخر، تؤثر فيه تجاذبات السياسة والاقتصاد، والمصالح الاقتصادية والسياسية بين الدول، وهذا ما شهدنا أشده خلال العشر السنوات الماضية في منطقتنا العربية وباقي مناطق العالم، وربما يكون كتاب “حقائق وأخطاء وأكاذيب السياسة والاقتصاد في عالم متغير” قد كشف الحقائق والأكاذيب والتغيرات في المواقف والأحداث التي يشهدها العالم.
وتأتي أهمية هذا الكتاب الذي ألفه البروفيسور البولندي “ججيجوش كوودكو” وترجمته إلى العربية رحاب صلاح الدين، أنه أحد الكتب القليلة التي جمع مؤلفوها بين أمور لا يسهل الجمع بينها وهي “الموضوعية والصدق والعمق”، ويمكن أن تتعدد التأويلات والتقييمات حول درجة نجاح المؤلف في محاولته الجمع بين الأمور التي يظن كثيرون أنها قد باتت من المتعارضات في واقع التأليف المعاصر، لاسيما في مجال الاقتصاد والسياسة، إلا أن ما لا خلاف عليه هو أن المؤلف يحاول بالفعل أن يضع هذه الأمور الثلاثة أمام ناظريه دوما أثناء ممارسة الكتابة.
المؤلف هو خبير اقتصادي وسياسي مرموق وقد شغل منصب وزير المالية ونائب رئيس الوزراء في بولندا خلال فترة حرجة جداً من تاريخها (1994-1997م) وهو ما يعني أنه يكتب عن مسائل عاينها في الواقع التطبيقي كما عاينها في التنظير الأكاديمي.
في مدخل الكتاب يؤكد المؤلف أنه أصر على أن يصدر كتابه خالياً من أي أرقام أو إحصاءات أو جداول أو حتى أسماء مراجع، كما يصنع غيره من المؤلفين، والسبب في ذلك أنه وجد أن هذه الإحصائيات والجداول غالباً ما يستخدمها المؤلفون لإرهاب القراء والإيحاء لهم بأن كتاباتهم قد بلغت حداً أقصى من الموضوعية والعمق.
تصنيف
يعالج المؤلف في كتابه ومن خلال عنوان الكتاب “الحقائق والأخطاء والأكاذيب”، فهو يبدأ في تصنيف رجال السياسة والاقتصاد إلى ثلاثة أنواع بسيطة هي: (من يعلمون- ومن لا يعلمون- ومن يكذبون).
ثم يتوسع في توضيح دلالات هذا التصنيف الثلاثي لرجال السياسة والاقتصاد كما يلي: في الحالة الأولى يكون رجل السياسة والاقتصاد على علم بما يحدث لكنه عاجز عن اقناع الجماهير بوجهة نظره، وهنا تكون المشكلة إعلامية وليست علمية ولكن هذه المشكلة غالبا ما تعبِّر عن وجود ثغرة في المهارات القيادية لرجل السياسة والاقتصاد بما يمنعه من توصيل رسالته إلى الجماهير.
وفي الحالة الثانية يكون رجل السياسة والاقتصاد جاهلاً وعلى غير علم بما يحدث، لكنه رغم ذلك قادر على التواصل مع الجماهير واقناعها بوجهة نظره التي هي غير صحيحة، وهنا تكون المشكلة علمية وليست إعلامية، ولكن هذه المشكلة غالبا ما تعبِّر عن أن درجة ثقة الجماهير برجل السياسة والاقتصاد هي أكبر من القدرات العلمية لرجل السياسة والاقتصاد في إدارة شؤون البلاد، فهو يضع سياسات اقتصادية خاطئة، إلا أن الجماهير تصدقها.
في الحالة الثالثة: يكون رجل السياسة والاقتصاد على علم بما يحدث لكنه يتعمد نشر الأكاذيب ليظهر الأمور عكس ما هي عليه خوفاً من ثورة الجماهير ورفضها للسياسة الاقتصادية التي يتبناها والتي يعلم هو أنها تفيد فئات محددة بعينها من المجتمع بينما تضر أغلب الفئات الأخرى وهذه هي الحالة الأسوأ في الحالات الثلاث التي يذكرها المؤلف.
تنويعات الحالات
ومع أنه من الواضح أن هناك حالات أخرى يمكن إضافتها إلى هذه التصنيفات الثلاثة التي يحددها المؤلف إلا أنه يركز على الحالات التي تعتمد على محورين أساسيين هما: درجة العلم بالاقتصاد والسياسة، ودرجة الصدق والشفافية مع الجماهير.
وهو يضع تصنيفه الثلاثي لرجال السياسة والاقتصاد وفق هذين المحورين الأساسيين لديه لكن لا بد من الإقرار بأن هذه الحالات الثلاث التي يحددها المؤلف هي التي تمهِّد الأرضية للتفكير في تنويعات مختلفة من حالات رجال السياسة والاقتصاد.
معضلة الإعلام
يرى المؤلف أن النقاش العلني عبر وسائل الإعلام هو سلاح ذو حدين، فمن ناحية يستحيل من دونه تمرير شعلة المعرفة إلى جمهور أوسع من الناس، ومن ناحية أخرى يمكن الكذابين والدهماء من الوصول إلى ذلك الجمهور نفسه، فرغم الاستخدامات الإيجابية والضرورية للإعلام إلا أن هذا الإعلام نفسه هو أيضاً المسؤول عن تسهيل عملية اجتياح الترهات للعالم ذلك أن “وصفة صياغة الترهات الاقتصادية سهلة”.
ولمعالجة مشكلات الإعلام والعمل على توجيهه التوجيه السليم يرى المؤلف أن أفضل علاجين لذلك هما الحكمة والمعرفة، وهذا ما يجعل الكفاح بالكلمة كفاحاً جديراً بالاهتمام، بعبارة أخرى “اقرأ كثيراً وانصت للآخرين واكتب قليلاً وتحدث إلى أولئك المستعدين للإصغاء والأهم من كل هذا هو التفكير السليم”.
ضد الترهات الاقتصادية
يتناول المؤلف في كتابه أمثلة عديدة لما يسميها بالترهات الاقتصادية، حيث قامت بعض الدول بتنفيذ ما يسمى بأسهم العدالة وهو برنامج لتوزيع جزء من أصول الدولة مجاناً على أفقر شريحة من السكان، ومن الأفضل بكثير بيع هذه الأصول بأعلى سعر ممكن في أسواق رأس المال ثم استغلال الدخل الناتج عن إلغاء التأميم (الخصخصة) في تنفيذ برامج اجتماعية هادفة للحد من أسباب الفقر ومظاهره، ولهذا فإن المؤلف “البروفيسور ججيجوش كوودكو” ينقد السياسات الاقتصادية ذات النزعة الاشتراكية التي عانى منها بلده بولندا لعقود طويلة إلا أن هذا النقد للسياسات الاشتراكية لا يعني أنه يتحيَّز لصالح السياسات الليبرالية الجديدة بل نجده ينتقد هذه السياسات أيضاً بشدة في كتابه فهو يتناول أهم هذه السياسات الليبرالية الجديدة بالنقد الشديد، كما يحذِّر المؤلف من بعض الإجراءات الاقتصادية مثل الضريبة الثابتة التي يتبناها الليبراليون الجدد.
المتحولون والمتعصبون
يحلل المؤلف مواقف بعض رجال السياسة والاقتصاد، ويجد بينهم رجل السياسة والاقتصاد الذي يتبنى فكراً محافظاً متعصباً ويتحيَّز لمذهب محدد دون آخر، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى هناك من يطلق عليهم “المتحولون” وهم أولئك الذين يغيِّرون من قناعاتهم وولاءاتهم السياسية والاقتصادية من مذهب إلى آخر فيكتب: “إن الفكر السياسي والاقتصادي يسلك دروباً شتى.. لكن دائماً يكون هناك سياق سياسي ومن المهم دوما معرفة من الذي يصدر الأحكام ومن الذي يحكم عليه، وفي أي زمن فمن ناحية نواجه رؤى محافظة يؤمن بها أصحابها بعناد زائد يفوق ما تستحقه، ومن ناحية أخرى نرى نقيضاً سلساً يتحوَّل جذرياً من رؤى إلى رؤى جديدة، تحوِّلاً يقفز من موقف دفاعي إلى موقف نقدي للرؤى السابقة.. فقد تحوَّل كثير من الماركسيين إلى مدافعين عن الرأسمالية الجديدة وانتهز بعضهم أول فرصة للقفز من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.
كما تتبَّع المؤلف مسألة تشويه الحقائق والكذب حتى داخل أروقة المعاهد والجامعات العملية نفسها، فيقول: “فمن أجل المال الكثير أحياناً والبخس أحياناً أخرى، يمكن شراء معاهد علمية أو مراكز بحثية وتثبيت أي نظرية يريدها الزبون، وانطلاقاً من هذا المبدأ أبدت العديد من كليات الاقتصاد والعلوم الاجتماعية في الجامعات الأمريكية على وجه الخصوص مواقف داعمة لليبرالية الجديدة في الثمانينيات والتسعينيات، ولا ينبغي التهوين من أهمية تلك التحولات فقد لاحظ عالم الانثروبولوجيا الأمريكي المرموق “ديفيد هارفي” أننا غالباً ما نغفل إمكانية أن تكون الأفكار السائدة مفروضة من النخبة الحاكمة على الرغم من توافر الدليل الواضح على التدخل السافر الذي يمارسه صفوة رجال الأعمال وجماعات المصالح لاستحداث أفكار وأيديولوجيات من خلال علمية الاستثمار في مراكز البحوث وتعليم التكنوقراط والسيطرة على وسائل الإعلام.
موضوعات بالغة الأهمية
وهكذا يخوض هذا الكتاب في موضوعات بالغة الأهمية بالنسبة للقارئ العربي لأنه يطلعنا على دواخل الأمور في المعامل والمختبرات التي تبلور الأفكار والبرامج الاقتصادية والسياسية ويشرح لنا كيف يمكننا أن نتعامل بشكل نقدي مع الأفكار والسياسات والبرامج الاقتصادية التي تطرح من حولنا والتي تروِّج لها وسائل الإعلام حتى نصبح أكثر قدرة على فهم بواطنها ودوافعها وتوقع نتائجها بشكل علمي بعيداً عن التحيزات والترهات الأيديولوجية التي تضر أكثر مما تنفع.

قد يعجبك ايضا