الإمام علي (ع) مواقف إنسانية..!

يحيى محمد الربيعي
معظم النماذج والأنظمة السياسية أثبتت أنها غير قادرة على إيجاد انسجام اجتماعي وسياسي بين السلطة والأمة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والحفاظ على الحقوق الفردية والعامة، بل إنها قادت الناس في معظم الحالات إلى نتائج كارثية؛ إذ يفتقد معظم هذه النماذج القدرة التشريعية الكاملة باعتبارها أنظمة وضعية تتداخل فيها المصالح الفردية والحزبية في التشريع، وتفتقد القدرة على التطبيق الجيد؛ إذ مع السلطة يطغى الفرد، وتسيطر عليه الانتهازية التي تجعله يضحي بكل المبادئ من أجل الحفاظ على السلطة.
ذلك أننا بشر نتعامل مع بشر سواء كانوا موافقين لنا في الدين والاتجاه أو مغايرين، ومن الأهمية بمكان أن نعرف كيف نتعامل معهم التعامل الإنساني السليم الذي يعكس صفاء الإسلام وتكريمه للإنسان كانسان قبل أن يكتسب أية صفة أخرى تضيف اليه اعتباراً آخر
فإذا أصبح موضوع حقوق الإنسان اليوم معروفاً منذ العصور المتأخرة، فإن الحضارة الإسلامية، تفخر بأنها أنجبت أنموذجاً نادراً في مقاومة مظاهر الحيف جميعها، ونصرة حقوق الإنسان، وسجل تاريخ الإنسانية المواقف الخالدة التي وقفها الإمام علي (ع) في الدفاع عن حقوق الإنسان.
إن المطّلع على سيرة أمير المؤمنين (ع) ومواقفه من قضايا حقوق الإنسان يلمس بسهولة أن جُلَّ أقواله والقيمَ التي آمنَ بها وَعَلَّم المسلمين إياها كانت تخدم حقوق الإنسان وحريته، وتناهض كل سلطة تحاول أن تظلم الإنسان، وتغتصب حقوقه، وبخاصة حقوقه السياسية والاجتماعية، وهو ما يوضح لنا صَرَامة المدرسة السياسية الفكرية التي أسَّسَها (ع) في نضاله من أجل بناء مجتمع العدل السياسي والاجتماعي.
إن ما تتحدث عنه كتب السير والتاريخ حول سياسة الإمام علي (ع) وعن مبادئه السامية في جانب الرعاية الإنسانية لابد أن تتعلم منه القوانين والدساتير لحقوق الإنسان في العالم الحالي، وأن تنتهج نهج الإمام لتكون درساً للبشرية كافة، فقد كانت مواقفه (ع) مُعبِّرة خير تعبير عن هذه الرؤية، وكان مستميتاً في الذود عنها قولاً وأداءً إلى آخر لحظة في حياته.
النموذج القدوة
عرف عن الإمام علي (عليه السلام) طوال حياته المباركة تمسّكه بالحق بكل صلابة، وقد يضايق أشراف قريش منه بتسويته في القسمة بينهم وبين العامة، وقد كان (عليه السلام) واعياً لذلك، ولكنه لم يتنازل عن هذا السلوك قَيد انملة.
وفي هذا الصدد يحسن بنا أن نتأمل في كتاب له (عليه السلام) أرسله إلى سهل بن حنيف الأنصاري – عامله على المدينة- يذكر فيه قوما من أهل يثرب يلتحقون بمعاوية: (أما بعد فقد بلغني أن رجالا ممن قِبلك يتسللون إلى معاوية، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم ويذهب عنك من مددهم فكفى لهم غياً ولك منهم شافيا فرارهم من الهدى والحق وإيضاعهم إلى العمى والجهل، وإنما هم أهل دنيا مقبلون عليها ومهطعون إليها قد عرفوا العدل ورأوه وسمعوه ووعوه وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة فهربوا إلى الأثرة فبعدا لهم وسحقا إنهم والله لم ينفروا من جور ولم يلحقوا بعدل وإنا لنطمع في هذا الأمر أن يذلل الله لنا صعبه ويسهل لنا حزنه إن شاء الله والسلام) (نهج البلاغة:3/113)
بهذا الكلام اثبت الإمام علي (ع) أنه أنموذج نادر في الدفاع عن حقوق الإنسان يتجاوز المجتمع الإسلامي ليشمل المجتمع البشري كله.
لقد أصبحت المفاهيم الإسلامية لحقوق الأمة عند الإمام علي (ع) جزءاً من حياته اليومية، علمنا انه لا يمكن أن تُحترم حقوق الإنسان وتُصان إلا في مجتمع مبني على أساس العدالة المحمدية التي تقاد من شخصيات قدوتها هو الإمام (ع) الحكم لم يكن غاية في حَدِّ ذاته، ولم يَسْعَ إليه في يوم من الأيام، بل كان من أزهد الناس به.
وهذا ما روي عن عبد الله بن عباس عند خروج الإمام علي عليه السلام لقتال أهل البصرة قال : دخلت على أمير المؤمنين بذي قار وهو يخصف نعله فقال لي:
ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، قال: (والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا).. فالسلطة لا تعني عند أمير المؤمنين (ع) إلا إقامة الحقوق، ومقاومة الباطل وأهله أينما حل وأينما كان، ومن دون ذلك فإن نعله البالية أحب إليه منها.
فالقيمة عند الإمام علي (ع) كانت للإنسان الذي يمثل هدف الحياة؛ وبالتالي فإن كل موارد الحياة هي في خدمته، وتدور في إطار حياته الأخلاقية والاجتماعية؛ إذ لا توجد عند الإمام (ع) قيمة تمايز أخرى، كالعشائرية والعنصرية والطبقية، فيقول (ع): (الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه).
ويقول (ع) أيضاً: (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
إنه حضور إنساني كبير في قلب استوعب الجميع فدافع عن الفقير والمظلوم والمسلم والمسيحي والأبيض والأسود..
يقول (ع): (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جُلب شعير ما فعلته).
دافع عن معارضيه فأخذوا يتآمرون عليه وهم في حمايته، وهو يعلم أنهم يتآمرون عليه؛ لأنه (ع) لا يسبق الجناية بالعقاب، وبذلك رسم الإمام (ع) منهجاً سياسياً يحفظ ويحمي للإنسان حريته في التعبير عن رأيه والوصول إلى الحق باختياره، إذ لم تكن السياسة عنده (ع) إلا مبادئ أخلاقية وإنسانية ودينية، وليست وسيلة نفعية تبرر فيها الغاية الوسيلة، فلم يكن (ع) ليضحي بهذه المبادئ ولو كانت تؤدي إلى شهادته، لأنها الأصل الذي يهدف إلى امتداد القيم وترسخها في عمق ضمير التاريخ البشري.
كان زهده (ع) هو نزع لكل عوامل النفوذ والقوة التي تحرك في الإنسان عناصر الجشع والطمع والطغيان؛ فبهذا الزهد الخالص يصبح الحاكم منسجماً مع الحق الإنساني متصادماً مع النزوع نحو أهواء الباطل؛ فالسلطة النهمة تؤدي إلى الفساد السياسي والاستبداد المطلق والعنف الدامي.
وزهده (ع) قمة الواقع التطبيقي لحاكم عادل تتمثل فيه المبادئ التي تصبح رمز قوته في بناء السعادة والعدالة الإنسانية؛ يقول(ع): (أأقنع نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش، فما خُلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها).
ويقول (ع) أيضاً: (وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لاتبقى نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين).
قراءتنا لتاريخ أمير المؤمنين (ع) بدقة وموضوعية وتجرد يمكننا أن نكتشف المنهج السياسي الإنساني المنصف للجميع دون تمييز لفئة على فئة؛ فهو الذي رفض المبايعة من طريق المساومة على المبادئ، لأجل حصد الأنصار المتدافعين على المصالح السلطوية، فهو منهج إنساني يحمي المظلوم، ويدافع عن حقوق الإنسان في الأمن والحرية، ولا يمارس سياسة القوة من أجل فرض الإكراه القانوني لتحقيق الضبط السياسي في الدولة.. وفي التطبيق، كان واضحاً.. زاهداً.. وحيداً في الحق.. لم يداهن ولم يساوم على المبادئ.
تميزت حياة أمير المؤمنين بخصال عديدة كان من أوضحها تعامله الإنساني المجرد مع الآخرين والمبني على احترام الإنسان كإنسان بغض النظر عن أي شيء آخر والمحافظة على حقوقه وشخصيته المادية والمعنوية في أي موقع ومكان ومهما كان حجمه ومستواه..
وأهمية التوجه إلى هذا الجانب في حياة أمير المؤمنين تنبع من دوره في التأثير على مجمل حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية، وفي كونه طريقاً إلى رضا الرب سبحانه وتعالى.
.ولقد كانت حياة أمير المؤمنين زاخرة بأمثلة عديدة من التعامل الإنساني مع الآخر في مختلف الأوضاع والظروف، فهي بحق – بعد رسول الله – أفضل مثال وقدوة تحتدى، خصوصاً ونحن نستعيد هذه الأيام ذكرى ولادته الشريفة.
وان حضور هذا البعد في حياته، هو الذي جعل من شخصيته، شخصية إنسانية خالدة على مستوى البشرية كلها، وليس في تاريخ المسلمين وحدهم.
ومن الشواهد في حياة علي في هذا المجال هذه القصة الهامة:
رجل من أصحاب الإمام اسمه (عبيد الله بن الحر الجعفي) خان الإمام والتحق بجيش معاوية في جوف الليل.. ذلك حين كانت نيران حرب صفين مشتعلة وفي قوانين الحروب يعاقب مثل هذا الخائن بالإعدام.. واستطاع أن يقدم عبيد الله خدمات كبيرة لمعاوية .. أما زوجته فكانت في الكوفة وتناهى إلى سماعها خبر هلاك عبيد الله في المعركة.. فاعتدت عدة الوفاة وبعد ذلك تزوجت برجل من أهل الكوفة في الوقت الذي كان عبيد الله حياً في الشام.. وحين اخبر بزواج زوجته .. خرج من الشام ليلاً.. وقطع المسافات الشاسعة ووصل إلى الكوفة ودخلها ليلاً.. وتوجه فوراً إلى بيت زوجته أما زوجته فخرجت إليه وهي محجبة.. وبعد حوار قصير أخبرته بزواجها من رجل غيره..
رأى عبيد الله أن أبواب العودة إلى زوجته مغلقة في وجهه.. ورأى أن أفضل حل أن يتشرف بلقاء مولانا أمير المؤمنين ويخبره بقصته.. وأمير المؤمنين رجل العدالة والحق.. ولا يعدل عن الحق وان كان المحق خائناً..
التقى عبيد الله بأمير المؤمنين منكّساً رأسه خجولاً لكونه يعلم انه خائن..سلّم على الإمام.. أجابه الإمام وتساءل مستنكراً: «أعبيد الله أنت؟».
عبيد الله يعلم أن علياً رجل الحق والعدل.. فانتهز الفرصة وقال: هل أن خيانتي تمنعك من العدل يا أمير المؤمنين؟ أجابه الإمام: «كيف.. ؟» وطلب منه ان يسرد قصته وطلب من الإمام ان يغيثه في أمره.. والإمام أمر بإحضار زوجته وزوجها الثاني وقال: على المرأة إن تنفصل من زوجها الثاني وتبدأ بالعدة من الآن.. وبعد انتهاء عدتها تعود إلى زوجها الأول- إن لم تكن حاملاً- ولو كانت حاملاً لا يعود إليها الزوج الأول حتى تضع ما في بطنها.. وولدها حلال طاهر وتابع لأبيه: الزوج الثاني.. وبعد ذلك تعود المرأة إلى زوجها الأول.
والجدير بالذكر ان الزوجة الغائب عنها زوجها لو راجعت المحكمة الإسلامية الشرعية وطلقها الحاكم الشرعي.. ثم عاد الزوج الأول.. لا يستطيع العودة لها.. ولا ينفسخ العقد الثاني وهو صحيح.. أما زوجة عبيد الله فلم تراجع المحكمة الإسلامية.. بل بادرت من نفسها إلى الاعتداد والزواج لذلك انفسخ الزواج الثاني بعد حضور الزوج الأول طبيعياً ودون طلاق..
ان العدل شرعة ثابتة لا تنتقض حتى في التعامل مع العدو (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
نعم، كان يمكن أن يستمر هذا النهج وهذا النموذج ويستثمره العالم الإنساني على طول التاريخ، لو وجد إنسان ومجتمع يتفهم بعمق الهدف ويستوعب غاياته ويسمو في مبادئه بعد أن يتجرد من أهواء الدونية ومصالحه الأنانية ويتنازل عن مطامعه المطلقة في السلطة والمال.
يمكن للإنسانية عندما يتراكم فيها ويرتفع المستوى الفكري، وتنضج عقلانيتها، أن تفهم بعد مرور آلاف السنين، وتناوب الحضارات، منهج الإمام علي (ع) في الحكم والحياة، إذ هو وجد في زمن لا يستوعبه وفي حدود تقصر العقول الضيقة عن فهمه.
ما أحوجنا اليوم إلى نموذج ومنهج الإمام علي بن أبي طالب (ع) لإنقاذ العالم من الانحدار السريع نحو الاستبداد والفقر والحروب والأنانية المطلقة.

قد يعجبك ايضا