الفساد.. والإرادة السياسية (9)

أحمد يحيى الديلمي

أحمد يحيى الديلمي
“الاقتصاد اليمني” الانطلاق ثم الانتكاسة
بدخول عقد السبعينيات من القرن الماضي بدأت تتشكل ملامح الدولة وتجاوز مرحلة اللاّدولة ، حيث صدرت أول ميزانية للدولة عام 1973م من قبل لجنة النقد اليمنية التي تشكلت بقرار من حكومة القاضي عبدالله الحجري وكان مقدار الميزانية أربعمائة وخمسين مليون ريال يمني بتمويل ذاتي لأن العجز كان مصدره الميزانيات الخاصة بالمشايخ وأمراء الحرب ، وهو ما أثار حفيظة هذه الفئة وسعوا إلى إسقاط حكومة الحجري وقد تمكنوا من ذلك مع أن علاقته بالسعودية كانت جيدة وهي التي باركت تعيينه ، ما لبث الأمر أن أخذ طابع التخطيط الممنهج عقب قيام حركة 13يونيو التصحيحية إذ ارتفع حجم الميزانية إلى ثلاثة أضعاف عام 1975م ، من المؤشرات الهامة في الميزانية الجديدة أن حصة الدفاع والأمن تقلصت مقابل زيادة نسبة التعليم والصحة كأهم عامل أكد الجدية وضاعف تحويلات المغتربين اليمنيين بشكل غير متوقع ، كما شجع على إصدار البرنامج الثلاثي والتمهيد لإعداد أول خطة خمسية للتنمية ، وما إن فرغت الجهات المعنية من إعدادها وأثناء الأعداد لأول مؤتمر دولي للتنمية ، حدثت الانتكاسة الكبرى باغتيال الرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي ، من تلك اللحظة بدأ العد التنازلي للتنمية التي كان مقدراً لها الارتقاء بالحياة في اليمن بإنجازات حقيقية تطرد شبح التخلف والفقر والمرض وتوصل التنمية إلى كل قرية في اليمن بفعل تعاضد الجهدين الرسمي والشعبي من خلال التعاونيات التي وصفها مكنمارا رئيس البنك الدولي آنذاك بالتجربة الرائدة والثورة الشعبية غير المسبوقة.
المقدمة الموجزة كانت ضرورية للانطلاق منها إلى بيان ما حدث من تراجع كبير، وكيف أن الفساد استشرى في الجانب الاقتصادي إلى أن أصاب المواطن والوطن في مقتل ، وهذا ما سنحاول التطرق إليه بشكل موجز لتبصير المعنيين بما حدث من تآمر أوصلنا إلى هذه الحالة المزرية.
الحقيقة أننا في اليمن نمتلك حزمة من القوانين والأنظمة والتشريعات الكفيلة بتنظيم العلاقة بين أطراف السوق على أساس سليم يوافق ما هو سائد في الكثير من الدول المتقدمة لأنها وُضعت في الأساس بناءً على استشارة المؤسسات الدولية البنك وصندوق النقد الدوليين ، و أخيراً منظمة التجارة العالمية.
للأسف البيئة الخصبة الممتدة من رأس الهرم إلى أدنى موظف وفر البيئة الحاظنة للإفساد بقواعد متقلبة أشدها ضراوة القاعدة التي تعتبر اختتام المسؤول للتوجيه بعبارة بحسب النظام أو وفقاً للقانون كمؤشر واضح للعرقلة والمماطلة والابتزاز ، هذا الاعتقاد ترسخ في ذهن الموظف أو طالب الخدمة وأصبح الأسلوب الحاكم للمعاملات اليومية في كل قنوات تقديم الخدمة ، أي أنه تم ليّ أعناق نصوص القوانين وتحويلها إلى وسيلة للابتزاز وشرعنة الرشوة في كل المستويات، وهذا أهم عامل لاتساع الفساد وسوء الإدارة كما جاء على لسان المرحوم الأستاذ محمد جباري عندما كان وزيراً للتموين والصناعة عاتبه الرئيس صالح لأنه لا يهتم بدوام الموظفين فأجاب :(أنا عندي ثلاثين موظف يكرهون الجمعة والإجازات الرسمية لأن الدخل اليومي ينقطع عنهم والآخرين مساكين يحضر الشخص منهم لإثبات حضوره ثم يذهب للبحث عن الرزق ).
التوصيف وإن كان قد ورد في شكل مزحة، إلا أنه يفضح حالة العبث والفوضى التي كانت قد وصلت إليها الأمور ، في أحيان كثيرة كان الموظفون يمقتون الوزير أو الوكيل المختص إذا انفردوا بخدمة كبار التجار وأصحاب الشركات لأن المسؤول الأعلى يستأثر بالعطاء ويحرمهم منه.
لن أطيل في هذا الجانب وأكتفي بما أسلفت ففيه دلالة واضحة على طبيعة الاختلالات ودورها في إفساد الضمائر بحيث صوبت سهام التآمر إلى العملة الوطنية باعتبارها آخر ركائز التعريف بهوية الوطن ، وبالفعل استمر التآمر حتى حدث الانهيار التام ووصلت الأمور إلى ما هي عليه الآن ، وتمثلت المؤامرة في الآتي :
أ ) استنزاف الاحتياطي من العملات الصعبة عن طريق :
1 – تمويل لصناعات التحويلية.
2 – فتح اعتمادات وهمية لمشاريع استثمارية لم تر النور.
3 – فتح اعتمادات استيراد بمعدلات أكبر من الواردات الفعلية بقصد الاستفادة من الفائض ووضعها في بنوك خارجية.
4 – صفقات شراء الأسلحة.
ب ) التآمر على البنوك النوعية وهي :
(البنك الزراعي – البنك الصناعي – بنك الإسكان) ونتج عن ذلك إغلاق البنك الصناعي وتوقف نشاط بنك الإسكان بينما استمر البنك الزراعي نتيجة معالجة من قبل الدولة فلقد كان على مشارف الهاوية ، إلا أن حكومة باجمال قررت شراء ديون البنك والتي بلغت (11)مليار ريال وهنا لابد من إشارة إلى أن معظم هذه الديون كانت لكبار التجار وفي ذمتهم مع الشركات الكبرى والمتنفذين والمشايخ والقادة العسكريين وكبار المسؤولين ، أما المزارع البسيط فلم يتجاوز حجم الدين لديه مبلغ 10% من إجمالي الديون، وهكذا حدث مع البنك اليمني للإنشاء والتعمير مع أنه كان بنك البنوك وبداخله أموال طائلة سرعان ما تبخرت خاصة أن البنك المركزي كان قد وجد وانتهى دور لجنة النقد اليمنية وأمين الصندوق العام المرحوم محمد صوفان الذي ظل يعمل من بداية الثورة حتى إنشاء البنك المركزي، هذه التحولات أخلت تماماً بالعملية الاقتصادية مع أنها كانت قد انتعشت بشكل غير طبيعي بفعل الطفرة الاقتصادية وزيادة تحويلات المغتربين بالذات من دول الخليج النفطية لأن أسعار النفط ارتفعت بعد الهزة التي حدثت في 1973م وما قابلها من تحولات إيجابية هامة اتسعت معها حركة البناء والإعمار في الداخل اليمني ، خاصة أن حركة 13يونيو استطاعت أن توفر عوامل الأمن والاستقرار في ربوع الوطن مما بعث الطمأنينة لدى المغتربين وجعل تحويلاتهم تتجاوز كل الحدود ، إلى جانب أن الأوضاع المستقرة حمست المغتربين غير اليمنيين بالذات من دول الخليج لإقامة مشاريع في اليمن ، وهكذا كانت قد بدأت الطفرة الاقتصادية تنعكس على اليمن ايجاباً إلى أن حلت النكسة بصعود الرئيس الغشمي ومن بعده الرئيس علي عبدالله صالح فلقد توقف كل شيء لأن الدولة بكل مؤسساتها تحولت إلى بؤر للفساد و الإفساد وتحولت الرشوة والإتاوات فعل شبه مشروع لا يتأفف منه أحد ، وهكذا توالت الانتكاسات وبدأ يهبط سعر الريال كلما تناقص الاحتياطي العام من العملات الصعبة هذا بالنسبة للشمال ، أما في الجنوب فلقد لعب النظام الاشتراكي دوراً هاماً في تجميد الأوضاع ، صحيح أن الفساد كان شبه معدوم لأن ميزانية الدولة محدودة والموارد محدودة لذلك لا يمكن أن نعتبر وجود فساد ، بعكس ما حدث بعد إعادة تحقيق الوحدة اليمنية فلقد اتسع الفساد بالذات نهب الأراضي باعتبار أن أراضي الجنوب ملك للدولة وتم إلغاء الملكيات الخاصة في فترة التأمين ، مما جعل الأمور متاحة أمام قيادة الدولة والمقربين للعبث والتصرف بأراضي الدولة بطريقة عشوائية وبشكل غير مقبول ، حيث تم استخدام الأراضي وسيلة لشراء الضمائر والإرضاء وهكذا توالى العبث واستشرى الفساد حتى اصبح هو السائد وأصبحت العملية مدعاة للسخرية ، وفي فترة لاحقة أرادت الدولة أن تنظم عمليات الاستيراد وتمنح تراخيص للموازنة بين مستويات الدخل من العملات الصعبة ومتطلبات الإنفاق ، ولكن لأن النفوس أصبحت مجبولة على الكسب غير المشروع وبأي وسيلة فلقد تحولت هذه المعالجة إلى أعظم بؤرة للفساد وكانت التراخيص تُمنح أحياناً بأوامر فوقية أو مجاملة للوزير المختص وتسببت في إفقار بيوت تجارية كبيرة مقابل ظهور تجار لا ناقة لهم ولا جمل ، وهكذا توالى العبث ليشمل كل جوانب الاقتصاد خاصة أنه استشرى كثيراً في مجال الجمارك والضرائب والواجبات الزكوية فلقد كانت هذه المواضيع الثلاثة مجرد أماكن للابتزاز والكسب غير المشروع وكان بعض المتنفذين يطلب من رئيس الدولة تعيينه في الجمارك أو في الضرائب بدون مرتب لأنه يعرف أن المرتب لا يساوي شيئا وأن معظم موظفي هذه المصالح يمنحونه للآخرين في شكل تبرعات وإلى اليوم لا يزال الوضع مزريا جداً سواءً في الجمارك أو في الضرائب ، فالدولة لا تأخذ من الضرائب مثلاً إلا بنسبة 25% أما الباقي فيذهب إلى جيوب الموظفين على شكل رشاوى وإتاوات وهدايا وغير ذلك ، لأن موظفي الضرائب في المصلحة والمكاتب التابعة لها معنيون فقط بضرائب الاستهلاك التجاري والمهن الحرة وكل ما يتعلق بأمور التجارة والأعمال وهي التي تتحول إلى مصدر للدخل اليومي للموظفين أما الدولة فهي آخر من يعلم ، فلا تستلم إلا القليل وهكذا الحال بالنسبة للجمارك ، والمطلوب أن تقوم الدولة بإعادة النظر في القوانين والأنظمة وتشكل لجنة خاصة لتحديد التعرفة الجمركية على كل مادة من المواد والسلع المستوردة بما في ذلك المدخلات الأولية لما يُسمى الصناعات فهي التي يحدث الخلل فيها خاصة موضوع الدروباك فصاحب المنشأة الصناعية مثلاً يدخل بعض المواد الأولية باسم الصناعة ولا يستنفد منها لهذا الغرض إلا القليل والباقي يباع في السوق ويستفيد التاجر من الفارق الكبير أمام حرمان الدولة ، والجمارك والضرائب موضوعان شائكان يطول شرحهما وبحاجة إلى ثورة عميقة توضح الأمور وتضمن إرادة الدولة، وأكتفي بما أسلفت في هذا الجانب لأن الأمر يطول شرحه..
وأعود إلى سياق موضوع العملة ومعالجات استقرارها، فأقول المطلوب توضيح دور ا لبنوك الأهلية وبالذات الإسلامية لأنها تحولت إلى دكاكين للصرافة وتهريب العملة إلى الخارج ولا علاقة لها بالاستثمار أو تمويل المشاريع الاستثمارية في ظل الفوضى والعبث البنك المركزي في وادٍ وهذه البنوك بوادٍ آخر ، كل بنك يقوم بإرسال ما يشتريه من عملة إلى الخارج أمام مرأى ومسمع البنك المركزي بحجة أنه يمول الصفقات التجارية ، بينما التجار يقومون بفتح اعتماداتهم مباشرة وعن طريق العملات الصعبة من السوق ، وهو ما يضاعف الأعباء ويجعل العملة الصعبة المتوفرة غير قادرة على الإيفاء باحتياجات السوق ، وهناك عامل آخر يؤدي إلى اضطراب العملية والمتمثل في شراء السلع غير الضرورية والتي تجاوزت ما يُسمى بالكماليات في المفرقعات والألعاب النارية وألعاب الأطفال وغيرها من السلع غير المجدية والتي تسبب أضرارا كبيرة في الداخل اليمني ، وفي حالة الاستغناء عنها فإن المواطن لن يحس بذلك كونها كما قلنا كمالية وغير ضرورية ، ما يُثير الدهشة أكثر أن هذه السلع تدخل إلى السوق اليمنية مهربة ولا تدفع عليها جمارك أي أن العملية تأخذ طابع النهب المباشر للعقول والمال وتقلق السكينة العامة.
وسنتطرق إلى الأسباب لكننا نبدأ بالحديث عن موضوع الأسعار وما رافقه من حالات شد وجذب بقصد الاستغفال والضحك على الذقون.
التجار والأسعار
بمراجعة بسيطة لواقع الحياة التجارية والاختلالات التي تراكمت على مدى ثلاثة عقود من الزمن سيتضح لماذا تراكمت الفوضى وعدم احترام القوانين والأنظمة في الأسواق وطبيعة العلاقة بين التاجر والمستهلك في عموم البلاد.
خلافاً لما بشر به خبراء الاقتصاد من الرخاء واستقرار أوضاع السوق بعد مواءمة القوانين واللوائح المنظمة للعلاقة بين أطراف السوق مع تعاليم منظمة التجارية العالمية والانخراط في اقتصاد السوق ، حدث العكس تماماً بعد أن تركت الدولة الحبل على الغارب ، تفاقمت الأزمة المعيشية وخضع نظام السوق لفوضى عارمة حيث تراكمت الأعباء على الفقراء وأصحاب الدخول المحدودة وازدادت حدة المشكلة بفعل ما يلي :-
1) غياب العامل الروحي وانعدام الرقابة الذاتية التي مصدرها قوة الإيمان والخوف من الله سبحانه وتعالى.
2) التقليد الأعمى لأساليب التجارة السائدة في الغرب التي لا مكان فيها للتراحم والمراعاة.
3) اقتحام أبناء المسؤولين والمتنفذين ميادين التجارة والصناعة والمقاولات وظهور آخرين اقتحموا هذه الميادين بلا خبرة بدعم ومساندة مسؤولين وواجهات اجتماعية سهلوا كل شيء أمامهم فاستطاعوا التفرد بامتيازات خاصة وحققوا مكاسب مهولة ، وتم توظيف المال لشراء ضمائر الموظفين مما ضاعف الانحرافات السلوكية واتسع نطاق الفساد والإفساد ، أي أن التجار توحشوا وأتقنوا كل أساليب النصب والتزوير والتهريب وكل أنواع الخداع التي عمقت الفوضى في السوق وأدت ولا تزال إلى ارتفاع الأسعار بشكل جنوني خلافاً للأساليب الأخرى الأكثر إجحافا ممثلة في التلاعب بالأوزان والمكاييل والمقاييس والمواصفات وتزييف الماركات وتغيير فترة الصلاحية كأبشع مظاهر الفساد خاصة أنها شملت الأدوية وجعلت المواطن يراهن على الوهم ، وبالتالي فإن الأمر بحاجة إلى وقفة جادة لتمكين الناس من الانتصار على الواقع المعيشي المزري وحتى يلمس البسطاء مصداقية المسعى كأهم خطوة تقوي بنيان الجبهة الداخلية وتعزز الصمود في وجه الأعداء.
للأسف هناك ممارسات وأعمال بشعة تتعارض مع الأخلاق وأبسط القيم والمبادئ الإنسانية وكلها جاءت كإفراز طبيعي لعقود من الفوضى والعبث التي جعلت البسطاء والمحتاجين نهباً للجهلة والشواذ الذين استغلوا المناخ العشوائي للثراء غير المشروع واعتبار التمرد على الأنظمة والقوانين الحاكمة بطولات وأعمال مشروعة في ظل خلط الأوراق وضرب المسؤوليات ببعضها حتى وجد المواطن البسيط الأبواب أمامه مغلقة بعد أن بلغ التجار درجة الاحتراف في اختلاق المبررات والذرائع وامتلاك القدرة على فتح أبواب المسؤولين الموصدة أمام عامة المواطنين على مصاريعها ، إضافة إلى وجود فريق داعم يقوم ببث الشائعات وفبركة الأكاذيب التي تزعزع ثقة المواطن بالدولة ، المشكلة أن هذه المظاهر تتفاقم أكثر في زمن العد وان والحصار كما هو الحال مع المشتقات النفطية.
النفط والمعادن
يجمع عدد كبير من اليمنيين والأجانب أن المرحوم صالح أبو بكر بن حسينون كان أفضل من تولى حقيبة النفط والثروات المعدنية ، هذا ما أفصح عنه أصدقاء الرجل وأعداؤه لأنه كان صادقا في التعاطي مع المهمة والدليل أن أفضل اتفاقيات التنقيب عن النفط تمت أثناء وجوده في الوزارة ، فلقد أبدى حرصا كبيرا على وضع الشروط من حيث المدة الزمنية لاستغلال الشركات وتوزيع نسب العائد بينها وبين الدولة ، كما حرص على اتباع شفافية مطلقة ومكاشفة الشعب بكل صغيرة وكبيرة عن الاتفاقيات ، هذا الأسلوب أغضب رأس النظام آنذاك لأنه أغلق المنافذ المأمولة للمكاسب الذاتية وأسهم في إيصال كل العائدات إلى خزينة الدولة ، عن هذا الجانب سمعته يبرر للمرحوم الشهيد المغدور جار الله عمر رحمه الله سبب اعتكافه والتهديد بتقديم الاستقالة قال : ( تصور أن الرئيس أرسل شخصا مقربا إليه لمساومتي ، طلب مني عدم الإشارة إلى ما تقدمه الشركات من مبالغ لمنحها امتياز التنقيب في أحد البلكات تحت مسمى “حق المفتاح” ) ، ما أثار دهشتي أن الوسيط تكلم بثقة تامة بحجة أن البند جديد غير مألوف في الاتفاقيات الموقعة قبل الوحدة ، وعرض عليّ مقابل الصمت والشطب من أخبار الاتفاقيات نسبة10% لكني رفضت وهددت بتقديم الاستقالة ، التي أفصحت فيها عن المساومات والأساليب القذرة التي تمارس من أجل الإمعان في نهب خيرات الوطن ، بعد ذلك تشعب الحديث بين الأثنين عن جوانب أخرى.
الموضوع يطول شرحه لكنه يوضح عمق المشكلة خاصة أن جزئية حق المفتاح غابت تماماً من الاتفاقيات التي وقعت بعد غياب المرحوم بن حسينون نتيجة دخول الوسيط المحلي وكيل الشركة في الداخل ، وهذا الأخير قام بدور الرائش بين رأس النظام وشركات الإنتاج والتسويق ، أما الكارثة الكبرى فقد حدثت في جانب استغلال وتصدير الغاز ، فلقد وقعت الحكومة اتفاقيات مجحفة مع شركات فرنسية وكورية أقل ما توصف به أنها مؤامرة كبيرة تعمدت القبول بالفتات مقابل حصول الشركات على سهم الأسد بشرط أن تضمن نسبة رأس النظام وأزلامه كل بحسب أهميته وقوة نفوذه وموضعه في سلم المسؤولية.
أما النفط فقد تعرض لعمليات نهب منظمة تحت غطاء السرية والتعاطي مع الثروة في قنوات محدودة جداً وجدت مداخل كثيرة للاستحواذ وتقاسم الغنيمة حتى بعد أن تولت اللجنة الاقتصادية العليا موضوع إنزال المناقصات للكميات المستخرجة ، حيث استمرت عملية الهدر والاستحواذ على نسب كبيرة من عائدات البيع والمثال الأكبر في هذا الجانب الاتفاقية المبرمة مع شركة “هنت” التي قضت بانتقال ممتلكات وإدارة العملية للجانب اليمني بعد انتهاء المدة التي حددت الاتفاقية لحصة الشركة من الإنتاج ، إذ تصاعدت من العملية روائح نتنة أزكمت النفوس واضطرت مجلس النواب إلى التدخل وجرت سجالات واتهامات كبيرة ، إلا أن الموقف الرئاسي حسم الأمر ومُررت الاتفاقية كما هي مع إجراء تعديلات بسيطة ، لمعرفة أدق التفاصيل حول هذا الموضوع يمكن العودة إلى محاضر مجلس النواب ، وهناك ملفات عديدة شائكة في هذا الجانب يمكن متابعتها وفيما يلي عدد من الاقتراحات للإصلاح ومحاربة الفساد بكل أشكاله ، وتتمثل في:
1) فتح ملفات كل اتفاقيات التنقيب وقراءتها بتمعن بالذات شروط الشراكة مع الأجانب وتحديد نسب الفائدة.
2) الحصول على الخارطة العامة لأماكن وجود النفط الحالية والواعدة والتعاطي بشفافية مطلقة في هذا الجانب ليكون المواطن على بينة من الأمر باعتباره المالك الحقيقي لهذه الثروة وحتى لا يظل نهباً للإشاعات والأخبار الكاذبة التي تمنيه بالسراب.
3) إعادة هيكلة وزارة النفط والهيئات والمؤسسات والشركات التابعة لها وتقليص الوسطاء بالذات فيما يتصل بالتسويق وخدمات حقوق النفط.
4) مكاشفة المواطن بالدور الإجرامي الحقير للعملاء والمرتزقة ممن شكلوا غطاء لدول العدوان مكنها من النهب المنظم لثروة الوطن من النفط والغاز وممارسة سرقة هذه الثروة في وضح النهار مما ضاعف أوجاع أصحاب الثروة وضاعف الفاقة والحرمان وزيادة الفقر.
هناك تفاصيل كثيرة في هذا الجانب بحاجة إلى البحث والتدقيق برؤية وطنية طابعها الحرص على الثروة وتوظيفها لصالح التنمية وخدمة الوطن والمواطن.
الزراعة والموارد ا لمائية
في زمن مبكر تم إطلاق عبارة على وزارة الزراعة مفادها (الزراعة مقبرة القروض والمساعدات) وذلك نظراً للأرقام الفلكية المقدمة من الدول والمنظمات المانحة التي فاقت كل التصورات وتم تبديدها بعبثية وانتهازية مفرطه ومعظمها تم انفاقها على الخبراء ووسائل النقل والتجارب الفاشلة وكان لوجودها الشكلي دور في إهدار الملايين وذهابها إلى جيوب خاصة ، آخر التجارب ممثلة في إنشاء صندوق دعم وتشجيع الإنتاج الزراعي والسمكي ، هذا الصندوق تحول بقدرة قادر إلى أكبر وكر للفساد والإفساد يمول مشاريع ومعدات زراعية على النحو التالي:
1) استناداً إلى توجيهات عُليا كانت الرئاسة توجه بصرف مضخات وحراثات وكل وسائل الإنتاج الزراعي ويتم اعتماد القيمة من الصندوق أحياناً تسلم القيمة فقط ولا توجد المعدات ، لأنه في الأساس لا يمتلك صاحب الأمر مزرعة ، وإنما بدلاً من أن يطلب حوالة مالية طلب معدات زراعية ، وهكذا تسلسلت المسؤوليات من رأس الدولة إلى وزير الزراعة ، الكل يحول والصندوق يمول.
2) الخطوة الثانية تمثلت في إدراج قيمة المعدة أو المشروع في سجلات الصندوق وتتم الدورة المستندية على أساس أنه تم تنفيذ المشروع أو أنه تم بالفعل استلام المستفيد للآلة المحولة له ، والواقع أن المستفيد استلم مبلغ زهيد جداً من التاجر الوكيل ، وقام التاجر بدوره باستلام القيمة الكلية المدونة في عروض السعر بشرط ضمان حق المسؤولين في الصندوق ، حدث نفس الشيء مع المشاريع ممثلة في إنشاء السدود والحواجز المائية وما سُمي بمشاريع التنمية الريفية الأولية ، يمكن الوقوف على هذه الحقائق بمجرد العودة إلى قائمة المشاريع المنجزة لمعرفة الفارق الخيالي بين ما أنجز فعلاً على أرض الواقع ومعدات الانفاق الفلكية ، مثال على ذلك ما حدث في الجوف إذ قام أحد المقاولين بتوقيع اتفاق على حفر (140)بئرا ارتوازية كانت ستشكل ثورة في المنطقة وتم استلام الآبار وصرفت المستخلصات وفي نهاية الأمر اتضح أن الموجود من الآبار (20)بئرا فقط والبقية مجرد مواصير على وجه الأرض ولا يوجد أي عمق وهكذا توالت عمليات النهب والكذب والخداع بقصد نهب ثروات البلاد واستغفال المواطن المغلوب على أمره.
الثروة السمكية
ما حدث في الزراعة تكرر في الثروة السمكية من الاستنزاف وإهدار الثروة بشكل عشوائي كاد يقضي على حقول التكاثر خاصة للأسماك النقدية ذات القيمة العالية لأن جهة الإشراف حصرت ترخيص الاصطياد لها في المقربين من النظام والمتنفذين أصحاب السطوة ، كما هو معلوم هذه الفئة عديمة الخبرة ولا علم لأفرادها بالإصياد ومتطلباته ،لذلك تعاونوا مع شركات أجنبية كان همها الوحيد الحصول على أكبر كمية من نفس الأنواع المطلوبة في الأسواق الخارجية بقصد جني الأرباح الطائلة ولو على حساب تبديد الثروة وانقطاع التناسل ، لتحقيق هذه الغاية لم يدخروا أي وسيلة كان أخطرها عمليات التفجير في أعماق البحار لضمان نفوق أكبر كمية يسهل جمعها بعد صعودها إلى سطح المياه من الأسماك بأنواعها المختلفة.
مثل هذه العمليات الإجرامية هدمت حقول التكاثر وقضت على البويضات المأمولة للتكاثر ، إلى غير ذلك من الممارسات والجرائم المجردة من أي حس وطني أو حرص على الثروة السمكية.
أن الفكرة الأساسية لتصحيح هذه الأخطاء الفادحة تتمثل في :
1) تنظيم عملية الاصطياد بطريقة عملية ومتطورة.
2) محاولة إيجاد شركات تجمع كافة الصيادين وتمكنهم من أداء العمل بشكل جماعي ومنظم يضمن حماية الثروة ويحقق لهم دخولا منتظمة تحد من الفاقة والفقر ، والاستناد إلى آليات عملية قد تصل إلى حد التصنيع والتصدير أو التغليف فقط والتصدير إلى الخارج.
3) عدم منح التراخيص لأي أشخاص أو شركات كان لهم دور في تدمير منابع هذه الثروة ولو لمجرد المحاولة كإجراء جزائي يحد من مثل هذه الأساليب ويحفظ الثروة السمكية للبلاد.
4) القيام بدراسة الأعماق ووضع خارطة عامة لكل نوع من أنواع الأسماك وتحديد مواقع تواجدها لتسهيل عملية الاستثمار في هذا الجانب وفتح المجال أمام الشركات للاستثمار.
5) محاولة تقديم قروض لصغار الصيادين ليتمكنوا من شراء قوارب حديثة تسهل عليهم عمليات الاصطياد وتخفف من أعبائه ، إضافة إلى الحفاظ على الثروة وعدم السماح بنفوقها بطرق عبثية وعشوائية.
ما أسلفت كان مجرد لمحة بسيطة عن الاختلالات الرهيبة المتراكمة كأساس لابتكار طرق الإصلاح وتقويم اعوجاج المسار من خلال اعتماد برامج وآليات عملية تقود إلى إنجازات حقيقية يلمسها المزارع والصياد اليمني ليستعيدا القوة والنشاط والحيوية الكفيلة بزيادة معدلات الإنتاج وتحقيق الفائض المأمول كأساس لاستعادة الدور التاريخي لليمن كبلد زراعي ومالك لثروة سمكية كبيرة نتيجة إطلاله على شواطئ تزيد عن 2000 كيلو متر على البحرين الأحمر والعربي والمحيط الهندي، والعمل على إيجاد قنوات لتصدير منتجات بعض السلع التي تزيد عن الاكتفاء الذاتي مع إعطاء اهتمام خاص للتعبئة والتغليف وإعداد السلع بشكل تنافسي يتضمن الفرز وتنقية المنتج من الشوائب وإتقان عمليات التسويق بالاستفادة من أهم ميزتين ممثلة في جودة السلع وقرب الأسواق المحتاجة إليها.
الجانب الاقتصادي طويل جداً والاختلالات فيه كبيرة لا يتسع لها المجال ولو نشرت عنها كتبا ، لذلك أكتفي بهذا الملخص أملاً أن يتم قراءته من جانب الجهات المعنية والاستفادة منه بشكل حيوي وهام يحقق النتائج المرجوة.. وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله.. والله من وراء القصد..

قد يعجبك ايضا