الأوقاف الشرعية.. الواقع والمقاصد الشرعية والطموح المنشود

 

عبدالله عامر
أراد الله تعالى من تشريع الأوقاف أن تكون عبادة وقربة إليه غايتها تحقيق مصالح كبيرة للمسلمين من خلال تحبيس عقارات على الدوام على اختلاف أصناف تلك العقارات لتحقيق مصالح مستدامة فيما يعرف في الوقت الحاضر بالتنمية المستدامة، وشرع الله الوقف على مختلف جهات وجوانب الحياة ما لم تكن تلك الجهة والمصرف محرمين، حتى أن الله تعالى شرع الوقف حتى على الذرية ليبقى نفع غلات تلك الأوقاف لهم على الدوام ما تناسلوا، وحتى لا تخرج عنهم منافع تلك الأموال بتصرف سفيه أو تبذير مسرف من طريق بيعها وأكل ثمنها لمرة واحدة.
والمشكلة تكمن في عصرنا الحاضر في واقع الأوقاف التي هي عليه اليوم، والتي وصلت في وضعها في الغالب إلى تفريغ الأوقاف عن المقاصد التي توخاها الشارع من تشريعها، حتى أصبح التعامل مع الأوقاف وكأنها فيد أو غنيمة حتى أصبح هذا الأمر ثقافة شائعة، ولذا تجد البعض يحرص على أن يحصل على عقار من عقارات الوقف بأي طريقة، ثم يتعامل مع المسألة وكأنه قد أصبح ملكا له، فتراه مثلا يستأجر العقار من الأوقاف بمبلغ زهيد ثم يذهب لتأجيره من الغير بمبلغ أعلى بكثير، وبعضهم يذهب ليستأجر مبنى من المباني التابعة للأوقاف للسكنى فيه مع أن لديه سكناً خاص يملكه، ولكن يعمل ذلك لأن إيجار الوقف مبلغ زهيد، ويقوم في نفس الوقت بتأجير بيته بمبلغ كبيراً، وسيحصل على هذه الغنيمة بشتى الطرق غير المشروعة، خصوصا إذا كان من موظفي وزارة الأوقاف النافذين.
وهنا لابد أن نشير إلى أن من أهم القضايا التي ساهمت في تفاقم مشاكل الأوقاف هي في السلطات التي تعاقبت على وزارة الأوقاف وليس في القوانين والأنظمة فقانون الوقف الشرعي يعتبر من أفضل القوانين، وفي نصوصه ينص على أنه لا يجوز التأجير بأقل من أجرة المثل في الزمان والمكان، وأنه ينبغي تجديد يد الولاية على الوقف كل ثلاث سنوات من خلال تجديد عقود الإيجار، ومن خلال ذلك تتم مواكبة تغير الإيجارات؛ ولكن للأسف لم تعمل السلطات المتعاقبة على قيادة وزارة الأوقاف على تصحيح هذا الخلل الكبير، فقد أصبحت الإيجارات للأوقاف عبارة عن مبالغ لا تستحق الذكر.
وفي هذه الظروف ظروف العدوان التي تمر بها اليمن يضع البعض إعاقات أمام تصحيح وضع الإيجارات، منها أن البلد واقع تحت هذا العدوان وظروف الناس المستأجرين لا تسمح بالتصحيح، مع أن هذا العذر في نفس هذه الظروف غير موجود في العقارات الحرة، ومع حتى التسليم بوجاهة هذا المبرر إلا أنه بالإمكان معالجة الوضع وتصحيحه بطرق عديدة.
إضافة إلى أن هناك أموالاً وعقارات كثيرة منهوبة من أموال الأوقاف، فينبغي الالتفات بعين الجد والاهتمام من قيادة الدولة إلى تصحيح وضع الأوقاف، فهي مسألة لا تقل أهمية عن الزكاة التي اتجهت قيادة الدولة إلى تصحيح وضعها من خلال إنشاء هيئة تعنى بمسألة الزكاة.
فالزكاة إذا كانت تعالج ثمان جهات التي تتمثل في مصارف الزكاة الثانية فإن الأوقاف الشرعية تعالج مئات الجهات والوجوه، ويعرف حقيقة ذلك من يطلع على المسميات والجهات الكثيرة التي تمثل وجوه مصارف الأوقاف.
فإذا ما تم تصحيح وضع الأوقاف الشرعية بما فيها ما يعرف بالوصايا والترب فإن ذلك سيسهم إسهاما كبيرا في الدفع بعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ بل هناك في الأوقاف حلول حتى للحيوانات التي تتعرض لإعاقات وعاهات فهناك مثلا أوقاف للحيوانات المعاقة والتائهة.
ويمكن مثلا حل بعض مشاكل الطرقات في المناطق الوعرة من خلال ما يعرف بأوقاف السبل والمبرات التابعة لها، ويمكن تقليص فجوة الفقر بشكل كبير من خلال أوقاف الفقراء أو ما يعرف بأوقاف الطعمة وأوقاف الضيافات، ويمكن معالجة مسألة انتشار الأمية بالأوقاف الخاصة بالعلماء والمتعلمين وما يعرف بالأوقاف التعليمية، ويمكن حل مشاكل المعوزين من المرضى من خلال ما يعرف بالأوقاف الصحية، وهي كثيرة فلو صحح وضع الأوقاف إيرادا ومصرفا لأسهم ذلك بنسبة مهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وهناك مشكلة كبيرة قائمة فيما يتعلق بمصارف الأوقاف حسب الوضع القائم المعمول به، هناك خلل كبير؛ بل فيه خطر مخالفة الشرع من خلال مخالفة نصوص الواقفين، فإن جل الأوقاف بل ربما كلها تورد إلى صندوق واحد وتصرف الإيرادات في غير مصارفها التي وقفت لأجلها، ويأكل معظمها طاحون الفساد والتبذير والهدر لتلك الأموال.
وفيما يتعلق بدور الأوقاف في مساهمته في إعادة توزيع الثروة ومعالجة المشكلات الاجتماعية مثل البطالة والأمية والفقر فيمكن بصورة قوية أن تسهم الأوقاف في حل كثير من مشاكل المجتمع، فهناك مثلا أوقاف خاصة بإصلاح ذات البين وهناك أوقاف لرعاية الأيتام والأرامل، وهناك كما أذكر أوقاف حتى لرعاية المطلقات بهذا الاسم.
فإذا صحح وضع الأوقاف ووجدت إدارة فاعلة لها بالامكان تخصيص جزء من إيرادات مختلف أصناف الأوقاف للعمل في الجانب الاستثماري بما يعزز المساهمة الأقوى في معالجة المشاكل المجتمعية المختلفة، من خلال خطط مدروسة وناجحة.
فعلى سبيل المثال يمكن من خلال الأوقاف الخاصة بالفقراء وأوقاف الطعمة إنشاء مشاريع زراعية على أراضي الدولة يعمل فيها العاطلون من الفقراء، ويمكن إقامة مشاريع مختلفة يخصص جزء من عائداتها لصالح العاملين فيها ليخرجوا من حالة الفقر، ثم بعد فترة بالإمكان تشغيل مجموعات أخرى من العاطلين والفقراء؛ لأن إعطاء العامل نسبة من عائدات المشروع يشجعه على الإخلاص في العمل والسعي إلى إنجاحه والنسبة تفيد في إخراجه من حالة الفقر وفي ذلك أيضا تحقيق لنصوص الواقفين على هذا الوجه بأبلغ ما يكون، ثم يتم بعد ذلك استيعاب مجموعات أخرى من الفقراء العاطلين وهكذا.
فالعمل الاستثماري في أموال الأوقاف من أكثر الاستثمارات نجاحا؛ لكن مع ضرورة إصلاح وضعها إيرادا ومصرفا كما ذكرنا.
وكانت الدولة قد أنشأت صيغة قانونية لاستثمار أموال الأوقاف باسم مؤسسة الأوقاف وصدر قانون بهذا الخصوص ولم يتم تفعيله بصورة عملية نتيجة للاختلالات التي ذكرناها المتعلقة بالقيادات المتعاقبة على الوزارة، وكذا المتعلقة بالاختلالات في الإيراد والصرف.
ولا ننسى أن نذكر أن أحد أهم العوائق الكبيرة لإصلاح الأوقاف هو خضوع الوزارة للتقاسمات السياسية عبر المراحل الماضية، ولا زال كذلك إلى اليوم، فكل وزير يأتي بأجندات حزبه لتنفيذها داخل الوزارة ولو على حساب الأوقاف، فمثلا مشروع حصر أملاك الأوقاف في مختلف محافظات اليمن تم تنفيذه في فترة من الفترات ورصدت له ميزانية كبيرة، ونفذت منه نسبة لا بأس بها، وبمجرد تغيير الوزير ومجيء وزير آخر يخدم لوناً سياسياً مختلفاً عن سابقه قام بإيقاف هذا المشروع وتعطيله، وهو لا يزال متوقفاً إلى هذه اللحظة، وهنا ينبغي وضع معالجة قانونية تخرج الأوقاف عن التقاسمات السياسية والأجندات الحزبية، وهذه ينبغي أن تكون من ضمن المعالجات الجذرية.
ومن الاختلالات الكبيرة خضوع مكاتب الأوقاف في المحافظات لسلطة الإدارة المحلية المتمثلة في المحافظين، وبالأخص في الجوانب المالية في مسألة الصرف من حسابات الأوقاف، فللمحافظ صلاحية مالية في مال الأوقاف، فهو من يوقع على شيكات المصروفات كتوقيع أولي وبهذا يتم تمرير صرفيات ليست من مصارف الأوقاف، وتحصل ذلك خلال هذا عمليات نهب لأموال الأوقاف تحت مسميات لا علاقة للأوقاف ولا مصارفها بها.
ونرى أن من أهم المعالجات الجذرية للأوقاف وقضاياها المختلفة هو أن تتوجه قيادة الدولة إلى أن يكون للأوقاف جهاز مستقل عن السلطة المحلية وسائر الجهات الإدراية في الدولة، وأن تكون لها استقلالية مثل السلطة القضائية، ويشترط في شاغلي وظائف الأوقاف شروط خاصة تشبه شروط شاغلي السلطة القضائية، ومن أهمها الفقه والعلم والأمانة، ويقال لكل من يريد أن يتولى شأنا من شؤون الأوقاف ما قاله أمير المؤمنين علي سلام الله عليه حين جاء إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إني أريد التجارة فادع الله لي، فقال له علي-عليه السلام: أفقهت في الدين؟ قال: أو يكون بعض ذلك؟ قال: ويحك!!، الفقه قبل، ثم المتجر، إن من باع أو اشترى ولم يسأل عن حلال ولا حرام ارتطم في الربا، ثم ارتطم.
فيقال لمن يريد التولي في الأوقاف الفقه في الدين أولا ثم الولاية؟ لأن الكثير من موظفي ومتولي الأوقاف لا يفقهون شيئا في الدين، ولهذا فإن الكثير من المخالفات التي يرتكبها متولو الأوقاف بحق الأوقاف سببها الجهل بأحكام الشريعة في مسائل الأوقاف، ولذا ترى كثيرا من المتولين والموظفين يحرصون على الحصول على مستحقات من أموال الأوقاف دون أن يقدموا أي عمل لصالح الأوقاف، وربما تجد البعض منهم منقطعاً عن العمل طوال السنة، فقط لا يزال اسمه في كشوفات المستحقات بسبب ثقافة الفساد والفيد.
فلو صحح وضع الأوقاف قانونا وبنية مؤسسية وإيرادا ومصرفا لتحولت الأوقاف إلى جهاز عملاق يستطيع أن يسهم في النهوض باقتصاد البلد في مختلف المجالات، وبإمكانه المساهمة في تغطية عجوزات الموازنة العامة للدولة دون الحاجة إلى أذون الخزانة المحرمة، ودون الإخلال بنصوص الواقفين، وذلك من خلال امتيازات تعطيها الدولة لجهاز الأوقاف في مختلف الجوانب التنموية للبلد.
وحتى بإمكان الأوقاف الاسهام في جانب تغطية مرتبات الموظفي الدولة فبدلا من تغطيتها من جهة التجار في صورة سلع تموينية للموظفين بأسعار تزيد على أسعار السوق بكثير، بإمكان جهاز الأوقاف من خلال مؤسسة تموينية متخصصة تتبعه تعطى امتيازاً من الدولة في هذا الجانب أن تغطي جزءاً مهماً من مرتبات الموظفين.
فقد كانت الأوقاف حسب معلوماتي في فترة من الفترات تقدم القروض الكبيرة للدولة عند حصول عجز في ميزانيتها.
ومن المعالجات التي يمكن تنفيذها وهي نافعة في نفس الوقت للاقتصاد الوطني بشكل كبير، فعلى سبيل المثال هناك مديونية كبيرة بالمليارات على المؤسسة الاقتصادية للأوقاف، وفي نفس الوقت تستغل المؤسسة أراضي واسعة للأوقاف لصالح أعمالها، وهذه المديونية شبه من المستحيل أن تتمكن المؤسسة الاقتصادية من سدادها؛ بل ستبقى معلقة بصورة دائمة، ولكن بإمكان قيادة الدولة بقرار أن تعالج ذلك بصورة نافعة للدولة وللأوقاف وذلك باتخاذ قرار بتمليك الأوقاف حصة في المؤسسة بقدر المديونية التي لديها وبقدر الأراضي المملوكة للأوقاف التي تستغلها في أعمالها التجارية، ويعاد تشكيل مجلس إدارة المؤسسة الاقتصادية على أساس هذا الواقع الجديد، وبإمكان الأوقاف رفد حسابات المؤسسة لتوفير السيولة اليومية بالإيرادات اليومية التي تورد إلى البنوك كودائع دون فوائد تعود للأوقاف.
وهناك أيضا مديونيات كبيرة على مؤسسات أخرى في الدولة، كثير منها عبارة عن إيجارات لعقارات تابعة للأوقاف، وهذه أيضا كذلك بالإمكان معالجتها بقرار من خلال تمليك الأوقاف لحصة في مشاريع الدولة المتعثرة، كمشروع شركة الأدوية (يدكو) مثلا المملوكة للدولة، أو مصنع الغزل والنسيج المتوقف، وبإمكان الأوقاف رفد مثل هذه المشاريع بجزء من السيولة اليومية من إيراداتها التي تتحصل من قبل المتحصلين وتبقى متوقفة لديهم لفترات طويلة، وهذه الشركة (يدكو) مثلا تحتاج أحيانا إلى سيولة تحتسب بالأسابيع وأحيانا بالأيام ثم يمكن استعادتها بعد تسويق منتجها في السوق المحلي؛ لأنه يتوقف أحيانا إنتاج هذه الشركة لعدم وجود بعض المحاليل التي لا تكلف مبالغ كبيرة، وهذه المحاليل هي في نفس الوقت متوفرة في السوق المحلية ولا تحتاج إلى استيراد من الخارج وانتظار لفترة طويلة.
والمهم في كل هذه المعالجات التي اقترحناها من وجهة نظرنا انها تحتاج فقط إلى قوة قرار وعزيمة على اتخاذه من قبل قيادة الدولة؛ لأن قيادة الدولة إذا بقيت تراعي الضجيج الإعلامي والاستسلام للتردد فلن تستطيع اتخاذ قرارات جوهرية تغير من الواقع المزري في مختلف الجوانب الذي رسخته أنظمة الفساد والعمالة طيلة الفترات الماضية، خصوصا أن القيادية الحالية للدولة جاءت من ثورة شعبية تصحيحية حقيقية، حملتها على أكتافها الشرائح المستضعفة من هذا الشعب المعطاء وهي ثورة 21 من سبتمبر المباركة، فإن الحلول التلفيقية والترقيعية لن تجدي في تغيير هذا الواقع المؤلم والمحبط، والذي يعتبر موضوع الأوقاف عبارة عن جزء لا يتجزأ منه.

قد يعجبك ايضا