الثقافة والتغيير المنشود لمستقبل الأمة

 

خليل المعلمي

بالثقافة يمكننا أن نحدث التغيير المنشود لمستقبل هذه الأمة التي غيبت ثقافتها وتعرضت لهجمة العولمة الشرسة التي كادت تطيح بكل ما هو أصيل وجميل في المشهد الثقافي العربي، وما نمر به في الوقت الحاضر من منعطف تاريخي حاد فعلينا أن نسترجع ما فقدناه أو تتلاشى الهوية العربية، ويصاب اللسان العربي بالخرس الأدبي.
في كتاب “نحو وعي ثقافي جديد” يطرح الدكتور عبدالسلام المسدي السؤال الثقافي الجديد، وأهمية الوعي بآلية الخطاب الثقافي العربي وهو يواجه محاولات الهيمنة وسط المتغيرات التي تكاد تعصف بكل ما يحيط بالمشهد الثقافي العربي، إلى جانب كشفه المحاولات التي يستغلها البعض في تكريس ثقافته من خلال السيطرة بعد الاختراق الثقافي الذي يحدثه والذي يليه بالضرورة تبعية اقتصادية وسياسية.
حرية الرأي
يرى أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية وعضو عدد من مجامع اللغة العربية في عدد من العواصم العربية الدكتور المسدي أن حرية الرأي داخل أوطاننا ستكون هي الدرع التي تقي المجتمع كله من مظالم النظام العالمي الجديد وهي حزام الأمان في هذا البحر المتلاطم من انجراف الحدود وتآكل السيادات لأنها ستكون المترجم الأمين عن كل الضمائر المتألمة والمفصح البليغ عن كل أصناف الحيف الثقافي وكل ضروب الإجحاف الحضاري مما قد لا يجرؤ الساسة على الأصداح به بحكم الأعراف الدولية السائدة يومئذ سيرون كيف تتولى النخبة الفكرية النهوض بهذه الرسالة وكيف سيجدون في الوئام الثقافي من حولهم أكبر نصير إذ سيتولى رجال الفكر إنجاز ما هم في أشد الحاجة إليه خارج كل دوائر الوصاية وخارج كل مظلات الإغراء كذلك.
وعن العلاقة بين المثقف والسياسي، يؤكد الدكتور المسدي أن احتياج الثقافي إلى السياسي هو احتياج ضرورة واحتياج السياسي إلى الثقافي هو احتياج بقاء ومنذ البدء يستوي الميثاق بين الطرفين، فالسياسي تلقى عليه الأسئلة فهو مهموم بالأجوبة والثقافي تطرح بين يديه الأجوبة فيظل مهموماً بالأسئلة يتحول عند السياسي إلى جواب والجواب يتحول عند الثقافي إلى سؤال جديد.
ثقافة الفكر الحر
يصف المؤلف الفكر الحر بالوجه الغائب للحقيقة الحاضرة فالسياسة تعد بالمستحيل وتنجز الممكن والفكر يطلب المستحيل ليظفر بالممكن، فالذي هو استئثار عند السياسي يتحول إلى إيثار عند المفكر ولا غضاضة على الفكر إن ظلت السياسة وفية للفكر في قلعة السياسة رغبات وفي قلعة الفكر رغبات.
وتطرق المؤلف إلى عدد من العبارات التي تجري على ألسنة العام وهي “حرية الرأي وحرية التعبير وحرية التفكير”، فحرية الرأي تعني أن للإنسان حق اختيار الإطار العام الذي تتنزل فيه طريقته في التفكير ومنهجه في تناول القضايا المتصلة بحياته في المجتمع والمتصلة بحياة سائر الأفراد فيه.
أما حرية التعبير، فهي حق كل فرد في الإعلان عن آرائه والعمل على اشاعتها بعد أن يكون قد مارس حقه الطبيعي في أن تكون له آراؤه الخاصة حيال أي موضوع أو أية قضية، أما حرية التفكير فهي العبارة التي كانت بعمومها كفيلة بتغطية كل ظلال المعاني دون تخصيص ودون تمحيص وكثيراً ما تم تداولها على أنها القرين المماهي لحرية الفكر ولكن النظر المتأني في بعض سياقات استعمالها يدفع إلى ترجيح تأويل مخصوص ومفاده أن عبارة حرية التفكير يقصد بها الإقرار بالرأي الآخر الذي يتجول بين الرأي المختلف والرأي المخالف والرأي الضديد والرأي المضاد وكلها مستويات مستقلة كل واحد منها بنفسه معاييرها التباين في الأول والتميز في الثاني والذي هو لازم الحضور بالضدية في الثالث والذي هو ناقص للجذور في الرابع.
الوعي الثقافي
ويتساءل المؤلف من الذي يخط حروف التاريخ على عقارب الزمن؟، هل هم الساسة أم الشعوب، ويوضح باختصار: إن الأمة الحق هي الأمة القادرة على صناعة الرموز وإنتاجها وعلى التعامل مع منظومة الرموز والأمة في حد ذاتها رمز والرجال هم أيضاً رموز في هذه الأمة، ولذلك استقرت الأعراف على أن الأمم لا يكتب لها الخلود إلاّ إذا اهتدت إلى المسالك التي بها تعرف كيف تخلّد رموزها وكيف تحوّل أسماءهم إلى رموز موحية دالة وتجعل من الاقتداء بهم نبراساً يضيء الفكر حين يتشرد وينير السلوك حين تتشتت به الأهواء.
وعرج خلال ذلك مستعرضاً العديد من المفكرين الذين سعوا إلى تطبيق مناهج فكرية متحضرة كطه حسين وغيره من المفكرين من بداية القرن العشرين حتى الآن وما لاقوه من معوقات اجتماعية وثقافية.
الاعتراف بالآخر
ويوضح الدكتور عبدالسلام المسدي إلى أن العرب عرف –خلال القرن العشرين- من المذاهب السياسية التحزبية ما أدخل تعديلاً على سلم الرتب، فأقام الهوية على وحدة الانتماء السلالي ووحدة اللغة ووحدة التاريخ مسقطاً بذلك الركن الروحي وإن اعتبره مقوماً مؤازراً لمنظومة القيم التي عليها يستوي معمار الهوية.
وتحديداً هنا تتشكل للمثقف وظيفته الجديدة ألا وهي النضال بإصرار في سبيل ترسيخ ثقافة الاعتراف بالآخر وترسيخ الاقتناع بأنها استثمار بعيد المدى ينتهي فيه كل الأطراف بفوائض ثابتة من الربح، ومسألة الاعتراف بثقافة الآخر جسر متحرك على ضفتين مقاومة الإجحاف بغية اقتلاع الاعتراف ثم محاربة التطرف مع مقاومة اتخاذه مطية لإرسال التهمة السهلة.
مشيداً بدور الثقافة العربية التي جاءت بما يشهد على أنها انسجمت مع قانون التاريخ في أن العلم إنساني وعلى الثقافة في خصوصياتها أن تذعن له وليس بوسع ثقافة أن تصنع مجدها الإنساني إلاّ إذا صارت ميثاق الاعتراف بالآخر.
العرب وسؤالهم الثقافي
يؤكد الدكتور المسدي إلى أنه يحق لكل المثقفين العرب وفي كل مرحلة من مراحل الامتحانات القاسية أن يتساءلوا عن أنفسهم وعن مصير وجودهم الجمعي من خلال المؤسسة ذاتها، أما الواقع التاريخي فيشير إلى أنه قد انتهى بالفكر العربي إلى أن يعالج قضاياه الثقافية من الموقع الذي ينظر فيه إلى حالته الحضارية.
ويعيد للتساؤل من جديد حول مؤسسة العمل الثقافي ويعني بذلك المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم حيث يتساءل إلى أي مدى نحن واثقون بأن قطارها منذ أنشئت قد وضعت عجلاته على السكة الصواب؟ أما نحن فإننا لنخال أن شيئاً من الأعراض قد لابس المؤسسة منذ وقف العرب تصورهم لها وظل هذا العرض ينمو بنموها وظل يخالط العمل الثقافي تخطيطاً وإنجازاً.
الانخراط في اللغة
يرى المؤلف أن من ضرورات الصحوة الثقافية الجديدة أن نعلم بأن علم الخطاب دائر اليوم على قاعدتين وهي تفكيك الخطاب الذي هو وجه من وجوه تحليله ولكنه يتميز بإرادة الكشف عن المضمنات التي تقولها بنية الكلام ضرباً مخصوصاً من القول دون أن يكون المستخرج فيها ملزماً لصاحب القول إلزاماً إجرائياً وإنتاج الخطاب وهو الوجه العملي من المعرفة، وعلم إنتاج الخطاب ما هو إلاّ واجهة أخرى من إحكام قواعد التواصل اللغوي مع سابق الإضمار بإبلاغ المقاصد التي يراد لها الحظ الأقصى من النفاذ..
ويشير المؤلف إلى أن اختيار مفردات اللغة يقحم المؤلفين والكّتاب في مضامينه كلها وفي متضمناته وتباعاته، ولهذا فإذا استخدامات كلمات اللغات لابد من تحمل المسؤولية في اختيارها دون غيرها، ويبتني على ذلك الدلالة في استخدام هذه الكلمات.
ويختتم كتابه بالحديث عن المأزق اللغوي، وتأثير غياب الوعي اللغوي في الثقافة العربية ونتاجاتها حيث يقول: لا مجال أمام العرب اليوم للانخراط بكفاءة واقتدار في المنظومة الإنسانية بكل أبعادها إلا بجبهة ثقافية عتيدة وبوعي ثقافي يتجدد بتجدد المرحلة.. ولا ثقافة دون هوية حضارية، ولا هوية دون إنتاج فكري، ولا فكر دون مؤسسات علمية متينة، ولا علم دون حرية معرفية، ولا معرفة ولا تواصل ولا تأثير دون لغة قومية تضرب جذورها في التاريخ وتشارف بشموخ حاجة العصر وضرورات المستقبل.

قد يعجبك ايضا