حروب أمريكا الخاسرة..من فيتنام إلى سوريا واليمن (8)

 

أحمد الحبيشي

بدأت الحرب الكونية على سوريا عام 2011م في إطار ما كانت تُسمّى ثورات (الربيع العربي) ، وامتداداً للضغوط الأمريكية الصهيونية الرجعية التي تعرضت لها سوريا منذ الثمانينات بسبب دعمها لفصائل المقاومة التي تتصدى للمشاريع الرامية الى تصفية القضية الفلسطينية وتفكيك دول وشعوب وجيوش المنطقة ، وبناء شرق أوسط جديد تقوده اسرائيل.. وقد أخطأ الرئيس السوري في تصديق تقديرات نائبه فاروق الشرع عندما استبعد وصول رياح ما تُسمّى ثورات (الربيع العربي) الى سوريا!!؟؟
تعود جذور الحرب الكونية على سوريا إلى الاحتجاجات التي اندلعت في مارس 2011م في مدينة درعا جنوبي البلاد ، ثم انتقلت الى العاصمة السورية دمشق تحت شعار (الشعب يريد إسقاط النظام) وسط تحريض سياسي وإعلامي عربي وعالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ودول مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمتها وزارة الخارجية القطرية وقناة الجزيرة.
وحاولت دول مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية نقل الأزمة السورية الى مجلس الأمن بهدف التدخل الدولي تحت الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة على غرار ما حدث في ليبيا، لكن روسيا والصين استخدمتا حق الفيتو المزدوج ضد مشروع قرار فرنسي خليجي ينص على التدخل في سوريا.
في هذا السياق، برز التوجه الأمريكي الخليجي لتسليح ما تسمى بـ(الثورة السورية) من خلال تصريحات وزير خارجية السعودية الامير سعود الفيصل في مؤتمر صحفي مشترك مع وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون عقب ختام مؤتمر أصدقاء سوريا الذي انعقد في اسطنبول عام 2011م، حيث رفع شعار ” تسليح المعارضة واجب” فيما ردت عليه وزيرة الخارجية الأمريكية هنري كلينتون قائلةً : ” إن هدفنا واحد وهو إنهاء نظام الأسد ” وأضافت: ( ولتحقيق هذا الهدف لن يكون كافيا اتفاق بضع دول فقط على ضرورة رحيل بشار الأسد ، بل نحتاج إلى مساعدة دول أخرى من مختلف أنحاء العالم ، ونحن نتحدث مع مجموعة كبيرة من الدول المنضوية في إطار مؤتمر (أصدقاء سوريا ).
من جانبه، كشف الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية السابق في قطر عن اجتماع عقده قبل سنوات مع الملك السعودي السابق عبد الله بن عبد العزيز تباحثا خلاله حول سوريا ، حيث تمّ تكليف الدوحة بالإمساك بالملف السوري بتفويض سعودي، مشبها سوريا بـ “الفريسة والصيدة” التي “تهاوش” عليها كل من السعودية وقطر وامريكا وتركيا واسرائيل خلال بداية الأزمة !!
وقال بن جاسم في مقابلة مع التلفزيون القطري أنه مع بداية الأزمة السورية (توجّهت للسعودية وقابلت الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز بناء على تعليمات من سمو الأمير الوالد، وقلت له هذه الحالة في سوريا وقال لي نحن معكم، أنتم سيروا في هذا الموضوع ونحن ننسّق ولكن فلتبقوا أنتم مستلمين للموضوع)!!
وأضاف ” لقد تهاوشنا على الفريسة (سوريا) التي ضاعت منا أثناء تهاوشنا عليها”!!
وتضمنت تصريحات بن جاسم اعترافات خطيرة حول تورّط كل من قطر والسعودية في الملف السوري بالتنسيق مع واشنطن وأنقرة، وصلت إلى حد دعم مقاتلين من جماعات ارهابية متعددة الجنسيات ، وقال : ” لدينا أدلّة كاملة لاستلام هذا الموضوع وكان أي شيء يذهب إلى تركيا بالتنسيق مع القوّات الأميركية ، وكان توزيع كل شيء يتمّ عن طريق القوات الأميركية والأتراك ونحن والأخوان في السعودية، وكلنا كنا موجودين عسكرياً ” !!
وفي مقابلة أخرى عام 2018م كشف الشيخ حمد بن جاسم لشبكة بي بي سي البريطانية مزيداً من المعلومات عن الدعم الخليجي لتخريب سوريا وزعزعة أمنها وتحويلها الى بحيرة من الدماء امتدت دمويتها حتى العراق الذي تحول هو الآخر الى دمار رهيب ومجموعة مقابر جماعية .
اعترف حمد بن جاسم بأن ما أنفق على الحرب في سوريا من يوم انطلاقها في 17 مارس 2011م إلى عام 2015م فقط ، تجاوز 137 مليار دولار، مبيناً أن أمراء التنظيمات المسلحة استغلوا وفرة الأموال فأصبحوا من أصحاب الملايين وأن عمليات الانشقاق في صفوف الجيش السوري كانت تجري بإغراءات مالية ، فالعسكريون العاديون الذين ينشقون عن الجيش السوري كان الواحد منهم يحصل على 15 ألف دولار أمريكي و الضابط يحصل على 30 ألف دولار أمريكي !!
كما أشار إلى أن انشقاق رئيس الوزراء السابق رياض حجاب تم بالتنسيق مع ابن خال رياض حجاب الذي يعيش في الاْردن منذ زمن طويل وقد دفعت له السعودية مبلغ 50 مليون دولار أمريكي، كما أن انشقاق مناف الطلاس تم بالتنسيق بين المخابرات الفرنسية وأخته مديحة الطلاس أرملة رجل الأعمال السوري السعودي أكرم عجة التي تعيش في فرنسا منذ زمن طويل وتحمل الجنسية الفرنسية.
وكشف النقاب عن أن رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري لعب دوراً كبيراً في الحرب على سوريا ، وكان له مكتب في مدينة غازي عنتاب التركية يديره النائب اللبناني عقاب صقر ، مشيرا الى أن تورط رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في تمويل الحرب على سوريا، كان أحد أسباب افلاسه ، وكذلك لعب رئيس وزراء لبنان السابق نجيب ميقاتي دوراً كبيراً من خلال مدير شرطة لبنان اللواء أشرف ريفي، كما لعب الأكراد العراقيون دورا كبيرا أيضاً في الحرب الكونية على سوريا ، و بالأخص مسعود البرزاني. وفي الختام قال حمد بن جاسم : (لقد لعبت دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا واسرائيل دوراً كبيراً في تدمير مصر و ليبيا و سوريا واليمن وجميعها كانت بأوامر أمريكية!!
ويذكر أن الحرب على سوريا لم تقف عند حدودها بل امتدت إلى العراق وتمددت داعش عبر ما اسمتها دولة العراق والشام واحتلت محافظات كبيرة داخل العراق ما جعل الدعم الخليجي الأميركي لما تسمى ثورات (الربيع العربي) يتسبب بهلاك ملايين العراقيين والسوريين بين قتيل وجريح ومشرد.
الثابت أن الحرب الكونية على سوريا فشلت في تحقيق أهدافها عبر محطات حاسمة سنتطرق لها في الحلقة القادمة ، لكن تناول تلك المحطات يستوجب قراءة عميقة لتقرير وزارة الدفاع الروسية الذي صدر في مطلع عام 2019م وقدم احصائية دقيقة لعدد العناصر الارهابية التي تم تصفيتها خلال عام 2018م فقط على الأراضي السورية.. وقُدَّر هذا الرقم بأنه يفوق 23 ألف مسلح .. من مختلف تشكيلات المجموعات المسلحة.. وتم احصاء 159 دبابة مدمرة للإرهابيين و57 عربة مدرعة واكثر من 900 مدفع و3000 سيارة مزودة بمدافع رشاشة من العيار الثقيل ..
ولكن الاحصائية الروسية تلفت النظر إلى أن عدد قتلى المسلحين منذ عام 2015م فاق 87000 قتيل ، وان عدد الدبابات التي دُمّرت لهم فاق 650 دبابة وأكثر من 700 عربة قتالية وألف معسكر ميداني و10 آلاف مستودع للذخيرة والوقود!!
واذا أضفنا الى هؤلاء مثلهم من القتلى الذين تمت تصفيتهم أثناء المواجهات بينهم وبين الجيش السوري منذ نهاية عام 2011م وحتى نهاية عام 2015م سنجد أن الجيش الارهابي العالمي الذي تم تدميره فقد قرابة 200 ألف عنصر وسيكون عدد الجرحى عموما ضعفين أو ثلاثة على الاقل .. وإذا اضفنا أيضاً الى هؤلاء اعداد المقاتلين الذين تم تحميلهم بالباصات الخضراء الى ادلب التي تحوي الخزان الاكبر والأخير للإرهابيين وعددهم يقدر بما لا يقل عن 70 ألفا ويقال 100 ألف .. فأننا نجد أن عدد العناصر البشرية التي كانت تشكل جسم الإرهاب والحرب الكونية على سوريا يقارب نصف مليون مقاتل من مختلف الجنسيات .
وقد أعرب إعلاميون عرب وأجانب عن دهشتهم من صور الأسلحة المصادرة وكمياتها الهائلة التي يعرضها التلفزيون السوري ، حيث تبدو ارتال الدبابات والمدافع والرشاشات والذخيرة بلا نهاية .. بل ان الجيش صادر كميات هائلة من المتفجرات التي لم يعد بالإمكان استيعابها ويضطر لإتلافها بتفجيرات كبيرة شبه يومية ينبه اليها عبر وسائل الاعلام السورية .. وكان الجيش أمام مهمة صعبة أخرى هي التخلص من كميات هائلة جدا وآلاف الاطنان وجبال من المتفجرات التي كانت بيد الارهابيين.. وتعادل ما صادره الامريكيون من الجيش العراقي عند سقوط بغداد عام 2003م.

ثمة رقم صادم يتمثل في عدد الدبابات المدمرة منذ عام 2015م والذي تجاوز 650 دبابة ومئات المصفحات و10 آلاف مستودع للذخيرة والوقود مع العلم انه لاتزال في حوزة المسلحين أعداداً كبيرة أخرى في ادلب .. وهذا يعني ان الجيش الارهابي بلغ في مجموعه نصف مليون ومعه على الاقل 1200 دبابة وآلاف المصفحات .. وهو ضعف الجيش الالماني السادس الشهير (فيرماخت) الذي وصل عديده الى 285000 وفتح اوروبا ووصل إلى ستالينغراد بعد أن شارك في معارك بلجيكا وفرنسا وفنلندا ورومانيا واوكرانيا .. إلا انه تحطم في ستالينغراد واستسلم منه 106 آلاف ولكن لم يعد منهم في نهاية الحرب إلا 60 الفا..
قد يقول قائل إن الأرقام الروسية مبالغ فيها .. وإذا قبلنا أن نسير مع هذا الزعم وأصغينا من جديد لهؤلاء الزاعمين فان علينا ونحن نصغي لمزاعمهم ان نتذكر ان الروس اضطروا إلى اطلاق 90 – 100 ألف غارة لإيقاف التمدد الإرهابي .. وهذا رقم كبير جدا مما يعني أنهم كانوا يتعاملون مع جيش واسع وكبير وشديد التدريب والتسليح ومنتشر بكثافة لدرجة انه وزع مخازنه على 10 آلاف نقطة.. مما يعطي الارقام الروسية تطابقا منطقيا مع عدد الغارات التي احتاجها الروس لمساعدة الجيش العربي السوري في وقف التمدد الإرهابي داخل الأراضي السورية.
وكذلك علينا أن نتذكر أن التقديرات الامريكية لداعش فقط تقول انها مسلحة جيدا وان مشروع اقتلاعها قد يستمر 20 -30 سنة وربما أكثر.. وسبب التقديرات واضح وهو أن الجيش الامريكي كان يدرك ماذا يملك هذا الجيش الارهابي العالمي، وماهي امكاناته للصمود طويلاً ..
كل هذا يقودنا تلقائيا الى السؤال عن هذا الكم الهائل من السلاح .. ولا يكفي القول انه غنائم حرب .. فالجيش السوري لم يخسر 1200 دبابة من مستودعاته بل بضع عشرات من نقاط محيطة مبعثرة قليلة الحماية.. كما ان جيش داعش الذي استولى على بعض معدات الجيش العراقي في الموصل وغيرها، لم يستول على 1200 دبابة وآلاف المدرعات بل كانت معظم غنائمه العسكرية سيارات همر ومدرعات لم تتجاوز 500 عربة ..
وهذا يضعنا أمام حقيقة أخرى هي أن هذا الجيش الضخم والهائل للتنظيمات المسلحة من حلب الى الشرق والموصل الى الجنوب السوري كانت له مصادر تمويل وتسليح وامدادات خارجية.

هناك ملفات ظهرت الآن عن صفقات أسلحة ودبابات من اوكرانيا ودول أوروبية الشرقية اشترتها دول خليجية وشحنتها الى تركيا والاردن ومن ثم الى الحدود السورية لتدخل المعارك .. وأحيانا كانت تصل المجنزرات والمدرعات وهي جديدة ..
وفي إحدى المعارك كانت تنفذ رحلات متلاحقة لبناء جسر جوي لايشبهها الا رحلات الجسر الجوي الأمريكي الى اسرائيل اثناء حرب تشرين 1973م..
وهنا نصل الى رقم 137 مليار دولار وهو لايزال الرقم الوحيد الذي تم الكشف عنه في اعترافات الشيخ حمد بن جبر آل ثاني في حديث (الصيدة) الشهير .. والذي اقر فيه أن قطر وتحالف أصدقاء سوريا ضخوا 137 مليار دولار في جسم الإرهاب المسلح (حتى عام 2015م تقريبا) !! .
هذا الرقم الهائل تقريبا هو ثلث المبلغ الذي دفعته السعودية الى مصانع السلاح الامريكية لتشتري أسلحة من مختلف الأنواع .. في أكبر صفقة عسكرية وحرب كونية في التاريخ ..
لذلك يمكن القول: إن أكبر تنظيم إرهابي مسلح في العالم كان يطلق عليه اسم (الثورة السورية) .. وان السلاح الذي قدم له جعله أول جيش ارهابي في العالم يحصل على هذا الكم الهائل من الدبابات والمدرعات والمخازن والذخيرة.. ناهيك عن السلاح الكيماوي .. وان أكبر عملية تمويل لأكبر عصابات في العالم كانت للجماعات الارهابية على الأرض السورية .. وأن أكبر مواجهة في التاريخ بين جيش نظامي وجيش إرهابي، هي المواجهة التي تمت على الأرض السورية .. وأن أعظم نصر في التاريخ هو الذي حققه الجيش العربي السوري وحلفاؤه ..
هذه الأرقام التي وردت أعلاه هي السبب الحقيقي لقرارات ترامب بالانسحاب من سوريا بعد أن اعترف بأن أمريكا أنفقت سبعة تريليونات من الدولارات على حروب خاسرة في الشرق الأوسط.

قد يعجبك ايضا