مستقبل الفلسفة في الألفية الثالثة ومجتمع ما بعد الحداثة

 

عرض/ خليل المعلمي

لقد كتب فلاسفة معاصرون عديدون حول موضوع مستقبل الفلسفة، ومن أهم هذه المؤلفات، كتاب “مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين” ويعد محاولة لرسم التحولات التي عرفتها الفلسفة المعاصرة وآفاقها سواء من حيث المواضيع والأسئلة أو من حيث المجالات الجديدة التي افتتحتها.
قام بتحرير الكتاب “أوليفر ليمان” وترجمه للعربية “مصطفى محمود محمد”، حيث كتب كل فصل من فصوله الأحد عشر باحث وفيلسوف مختص في مجاله، وشمل دراسة الفلسفة القديمة والحديثة، ومباحث الأخلاق والسياسة وبعض التيارات الجديدة كفلسفة ما بعد الحداثة والفلسفة النسوية، ومجالات فلسفية جديدة تعبَّر عن التطور الذي عرفه العلم والمعرفة والحياة الإنسانية في عمومها كالفلسفة التطبيقية وفلسفة الدين واللغة والعقل.
يؤكد محرر الكتاب، بداية على “إننا قد نكون على أعتاب مجتمع ما بعد الحداثة، إلا أننا بالتأكيد لسنا على أعتاب مجتمع ما بعد الفلسفة، ويضيف: لأن الفلسفة تعرّف عودة وحضوراً متميزين بعد كل ما قيل عن النهايات، من نهاية التاريخ إلى نهاية الإنسان، وأن إنسان الألفية الثالثة يطرح أسئلة جديدة تستدعي عودة التفكير الفلسفي، ذلك التفكير الذي يحكمه تصور للمستقبل لا يقوم على فهم خطي ومستقيم للتاريخ، وإنما على تصور منحنى يغير دائماً من اتجاهه حسب تحديد “فيتجنشتين”.
التقدم في تاريخ الفلسفة
من هنا يطرح سؤال التقدم في تاريخ الفلسفة؟ فهل يخضع تاريخ الفلسفة للتقدم مثلما تخضع العلوم للتقدم؟ لا شك أن مقارنة الفلسفة بالعلم يؤكد عدم تقدمها، خاصة أن الفلاسفة على غير اتفاق حول أي موضوع، هذا هو التصور العام والشائع للفلسفة، وبالتالي فإن الفلسفة لا تعرف التقدم، إنها مجرد شكل من أشكال الأدب، وعليه فإنها تتصف بالذاتية وليس بالموضوعية، على أن هذا التصور لا ينطبق إلا على بعض الفلسفات، إذ أن هناك فلسفات موضوعية ومن هذه الفلسفات: الفلسفة التحليلية التي “تعد فيها الفلسفة مشروعاً موضوعياً وأن شروط صحة البراهين فيها هي بالفعل شاقة وبالغة الصعوبة وسريعة التغير”.
على أن هنالك اعتراضاً آخر على الفلسفة هو اعتبارها نشاطاً ثانوياً لأنها “انفصلت عن الحياة الحقيقية”. إن هذا الطرق لا يدرك مستويات علاقة النظرية بالواقع لذا وجب النظر إلى الفلسفة “كعملية تشغيل أكثر منها سلسلة من المنتجات، وأن تنوع عمليات التشغيل التي يشملها الموضوع الفلسفي الواحد هو مرة أخرى علامة على ثراء الفلسفة وليس دليلاً على تفاهة شأنها”.
مستقبل الفلسفة
وعلى ذلك يأتي التساؤل داخل الكتاب: ما صورة الفلسفة في المستقبل “هل ستتغير صورتها؟ لا شك أن الفلسفة ستبقى في حالة قراءة ومراجعة لقضاياها ونصوصها وفي علاقة مع التحولات التي تعرفها البشرية وعلى رأس هذه التحولات العولمة وآثارها إذ من المحتمل أنه مع تقدم العالم نحو المزيد من التوحيد الثقافي فمن الصعب أن نظن أن الفلسفة لن تتبعه وأن بعض أوجه الإبداع الفلسفي في الشرق لن تتغلغل إلى المنهج الفلسفي في الغرب”، فهنالك مستقبل للفلسفة في الشرق مع ما تعرفه من نمو وتطور وهو ما يؤدي إلى قيام حوار حضاري من خلال عمليات المثاقفة.
على أن مستقبل الفلسفة مقرون دون شك بمستوى التعليم، كما أنه لا مستقبل للفلسفة من دون الإحساس بالتاريخ، إن “الفلاسفة يحتاجون إلى الإحساس بمعنى التاريخ وتاريخ الموضوع الذي يبحثونه والسياق الذي تحقق فيه هذا الموضوع”.
من هنا كانت الحاجة إلى قراءة تاريخ الفلسفة قديماً وحديثاً وجعله أداة للفهم ليس فقط لفهم النظريات الفلسفية بل لفهم العصر والمجتمع الذي يعبِّر عنه. يقول راسل: “لكي تفهم عصراً أو أمة من الأمم ينبغي أن تفهم فلسفتها”.
من هنا إنه إذا كان للفلسفة من مستقبل فإن وعيها بتاريخها أمر ضروري ويجب أن يظهر في مختلف مجالاتها من جهة تتبعها ووعيها بالجديد والإشكالي في العصر والمرحلة التي تعيش فيها، لذا فإن على مجالات الفلسفة المختلفة أن تساهم في معالجة وحل المشكلات المطروحة على الإنسان، ومن هذه المجالات الأساسية في عصرنا مجال فلسفة الأخلاق الذي يركز على القيم العامة للإنسان، ومجال الفلسفة السياسية الذي يدرس مواضيع الحرية والعدالة والديمقراطية وطبيعة الدول وعلاقة الفرد بها، وقد ساهم فلاسفة السياسة أمثال الأمريكي (راولس) والكندي (تايلور) والألماني (هابرماس) والفرنسي (فوكو) في تجديد هذا المجال، كما عرف هذا المجال مبحثاً جديداً ومهما وواعداً ألا وهو مبحث البيئة الذي يجمع بين السياسة والأخلاق ويتميز “مذهب البيئة بأنه فكر حي وحيوي” وسوف يكون “الموضوع الرئيسي للقرن القادم”.
تجديد الفلسفة
كما تجددت الفلسفة بتيار ما بعد الحداثة الذي أعاد النظر في مختلف قيم التنوير والحداثة، وأجرى نقداً شاملاً للتجربة الإنسانية، ما يؤكد حيوية التفكير الفلسفي وقدرته على التجدد من خلال ظهور نظريات فلسفية عديدة كالبنيوية والتفكيكية والسيمائية.. ودعوتها إلى ضرورة فهم الآخر والاعتراف بالاختلاف ونشر قيم التسامح والحوار ونقد العقل الأداتي والهيمنة والسيطرة، وقد أدت هذه الحركة الفلسفية إلى ظهور حركات فكرية وسياسية كالفلسفة النسوية التي تنادي بالمساواة وترفض مختلف صور الإقصاء والتهميش والعنصرية، وفتحت المجال لظهور مباحث فلسفية جديدة كفلسفة الدين والعقل وغيرهما من المباحث الفلسفية الواعدة.
إن قارئ الكتاب سيخرج بتصور واقعي للفلسفة تصور يقوم على إدراك الصعوبات الجمة التي يواجهها الخطاب الفلسفي، وفي الوقت نفسه يدرك الإمكانات العديدة التي تملكها الفلسفة وتسمح لها بالتجديد والتجدد، لذا نعتقد أن هذا الكتاب يأتي في زمانه وسياقه ليدعم النظرة الفلسفية الواقعية والنقدية ويبين الحاجة إلى الفلسفة في زمن العلم والعولمة.
ومهما اختلف الفلاسفة في تقويم حاضر ومستقبل الفلسفة إلا أنهم على قناعة تامة بأن مستقبل الفلسفة يكمن في أسئلتها. صحيح أن هنالك تيارات فلسفية في القرن العشرين قامت على أساس مناهضة الفلسفة- وهذه فرادة خاصة بتاريخ الفلسفة- لقد كان للفلسفة دائماً وعبر تاريخها الطويل خصومها الأشداء، تارة الأسطورة وتارة الدين وتارة السلطة السياسية وتارة العلم، لكن الظاهرة الجديدة التي حملها تاريخ الفلسفة في القرن العشرين هو مناهضة الفلسفة من داخل الفلسفة فتم الإعلان عن نهاية الفلسفة باسم التحليل المنطقي وباسم المادية التاريخية والجدلية وباسم البنيوية.
ما الحياة؟
وهناك سؤال آخر يطرحه الكتاب لا يقل حضوراً هو: ما الحياة؟ إننا نملك أجوبة كثيرة عن سؤال الحياة، أجوبة علمية ودينية وأسطورية وفلسفية، لكن سؤال الحياة يعود اليوم أكثر قوة وخطراً وقلقاً في ضوء ما نملكه من معارف عن الحياة، حياة الكون والطبيعة وحياة الإنسان، لننظر قليلاً إلى التحولات التي طرأت على مفهوم الحياة البيولوجية والجنسية والنفسية.
ألا يطرح سؤالاً: ما الحياة؟ لننظر في الحياة كما تقدمها لنا الفتوحات الطبية، من منا لا يعرف الاكتشافات المتعلقة بالخريطة الجينية والاستنساخ ولم يطرح على نفسه سؤال: ما الحياة؟
وسؤال ثالث يرتبط ارتباطاً عضوياً بما نحن فيه، وهو سؤال المصير، ما مصيرنا في عالم يزداد خطورة؟ ما مصيرنا ككائنات حية إزاء التطورات العلمية؟ ما مصيرنا إزاء الرعب النووي؟ إن سؤال المصير والمستقبل مطروح بقلق وحرقة.
ولكن وعلى الرغم من قيمة وخطر هذه الأسئلة، فإن هنالك من يعترض علينا بالقول: وما الجدوى من هذه الأسئلة، ما دامت الفلسفة لا تقدم حلولاً، وإن قدمتها فهي حلول نظرية لا تشفي ولا تسمن ولا تغني من جوع؟ وحينئذ علينا أن ننبه إلى أن الأمر لا ينطبق على الفلسفة فقط، بل على كل ما يميز الإنسان بوصفه إنساناً. نعم لأن منطق الربح والخسارة ومنطق التطبيق والاختيار ومنطق الملموس والمحسوس، سينطبق حينها على كل ما يميزنا، فلننظر إلى حياتنا الروحية ممثلة بالدين، نجد أنه لا تنطبق عليها تلك المعايير، فهل علينا أن نتخلص من معتقداتنا؟ إن الإنسان لا يكمن إنساناً إلا إذا جمع بنى حياته المادية والعقلية والروحية والعاطفية، ذلك ما تقول به التوجهات الجديدة في العلم ذاته والمعروفة باسم العلوم البينية حيث التضافر والتعاون من أجل فهم مركب أفضل للإنسان.

قد يعجبك ايضا