العيد في اليمن.. رقصة صمود على إيقاع الفرح رغم جراح الحرب

 

تتجلى في اليمن حكاية أمة تأبى الانكسار، قصة شعب يرتفع فوق ركام المعاناة ليُشرق بابتسامة العيد. في كل عام، ومع إشراقة شمس العيد، تُنسج خيوط المقاومة والصمود في نسيج من الفرح والعادات المتوارثة، مُعلنة للعالم أن الحياة هنا، في هذا الجزء من العالم الذي لم ينل حقه من السلام، لا تزال تتأجج بزخم لا ينضب. فالعيد في اليمن ليس مجرد مناسبة دينية، بل هو فعل مقاومة، وبيان وجود، ورسالة أمل، تُرسل من قلب الجرح إلى آفاق المستحيل.

الثورة /

سردية الصمود والبهجة في زمن الألم
في اليمن، حيث تتداخل أصوات التكبيرات مع أصداء الغارات، ويختلط عبق البخور بمرارة الحصار، يظل العيد أيقونة ثقافية راسخة، تُجسد إصراراً على استمرارية الحياة بكل تفاصيلها وجمالها. إنها ليست مجرد عادات وطقوس متوارثة، بل هي تجليات عميقة لروحٍ لا تقهر، تُعانق الفرح رغم أنف الألم، وتُعيد بناء الجسور رغم كل محاولات التدمير.
بناء الأمل من رحم المعاناة
مع اقتراب العيد، تُصبح الأسواق اليمنية، رغم شح الموارد، صخباً من الحياة. يكتظ الناس في ما يُعرف بـ”كسوة وجعالة العيد”، وهي ليست مجرد سلع تُشترى، بل هي رموز للصمود والإصرار على إضفاء لمسة من البهجة على حياة أطفال أنهكهم حصار العدوان. هذا الاكتظاظ، في ظل ظروف اقتصادية قاهرة، يُعد بحد ذاته فعل مقاومة، يُؤكد على أن الشعب اليمني لن يستسلم لليأس. فالأمهات اللواتي يُعددن الكعك والمعمول، ويُزينَّ البيوت بالخضاب، لا يُمارسن عادات فحسب، بل يُرسمن لوحة من الأمل، يُخبرنَ بها العالم أن الجمال والحياة أقوى من القبح والموت.
ويُشير محمد شرف الدين إلى أن مقولة “العيد عيد العافية” قد أصبحت تتجسد بشكل كبير. هذه المقولة، في سياق يمني مُثقل بالحروب، تُصبح بمثابة دعاء وتمنٍّ بالسلامة والعافية، لا مجرد تهنئة. فالناس يحرصون على توفير الاحتياجات الروتينية للعيد، ليس لترفٍ، بل كنوع من التشبث بالواقع، وكأنهم يُقسمون على أن الحياة ستستمر، وأن الفرح سيبقى.
أنشودة التكبيرات في وجه الدمار
يُصبح يوم العيد على صوت التكبيرات التي تصدح من الجوامع، تُعلن عن انتصار الروح على المادة، والإيمان على اليأس. هذه الأصوات، التي تتشابك معها ذكريات الغارات الجوية التي لم تُفرِّق بين المدني والعسكري، تُصبح نشيداً للصمود. فصلاة العيد، وارتداء الملابس الجديدة، ومصافحة الوالدين، وزيارة الأهل والأقارب، وتقديم “عسب العيد” أو “العيدية” للأطفال، كل هذه الطقوس ليست مجرد عادات اجتماعية، بل هي فعل استمرارية، وتعبير عن أن الشعب اليمني، رغم كل ما فقده، لم يفقد إنسانيته ولا قدرته على العطاء.
إن الطقوس الاجتماعية للعيد، كما يُوضح الخبراء الاجتماعيون، هي شكل من أشكال العلاقة التي تربط المجتمعات معاً. في اليمن، تُصبح هذه الروابط أكثر قوة ومتانة، فالتجارب المشتركة في الاحتفال بالأعياد الدينية، في ظل ظروف الحرب، تُعزز الشعور بالوحدة والتضامن. إنها تُساعد على خلق شعور بالتكاتف والتعاضد، يُصبح درعاً واقياً ضد محاولات تفتيت النسيج الاجتماعي.
مرآة لصلابة الهوية اليمنية
يُبرر غالب علي من محافظة إب أن مظاهر الحداثة لم تُؤثر على طقوس وتقاليد العيد في الريف. هذا التمسك بالجذور، في وجه عولمة تجتاح العالم، يُشير إلى هوية يمنية أصيلة، تُقاوم الذوبان وتُحافظ على فرادتها. فالأطفال الذين يستيقظون على صوت “الموكب” أو “الطبلة” التي تُرافقهم إلى المسجد، لا يُشاركون في عادة قديمة فحسب، بل يُعيدون إحياء جزء من تاريخهم، يتوارثون قيم الصمود من جيل إلى جيل.
يُعد هذا التمسك بالتقاليد جزءاً من المقاومة الشاملة للعدوان. فزيارة روضات الشهداء وقبور الأهل ووضع الرياحين والورود عليها، كما تصف “أ. تقية عبدالله”، ليست مجرد تخليد لذكرى الموتى، بل هي رسالة إلى أن الحياة مستمرة بفضل ما قدمه شهداؤنا العظماء من تضحيات، وتكريماً لآبائنا وأمهاتنا ومن لهم علينا فضل من الأعلام والأولياء، وأن الأجيال الجديدة لن تنسى من ضحوا من أجلها. إنها تُؤكد على أن الذاكرة الجمعية للشعب اليمني لم تُمس، وأن ارتباطه بأرضه وتاريخه لا يزال راسخاً.
ترياق للروح في زمن الحرب
في ظل الظروف القاسية التي تمر بها البلاد، حيث استهدف العدوان كل ما هو مدني ونشاط حيوي، من الأعيان المدنية والمصانع والشركات التجارية والمطار والميناء، وحتى المناطق الأثرية والمقابر ومراكز تجمع المهاجرين الأفارقة، يُصبح العيد ترياقاً للروح. فالتسوق وشراء الملابس والحلويات والذبيحة الحيوانية، رغم كونها مكلفة، تُعد بمثابة علاج نفسي جماعي.
يُوضح المواطن عبدالكريم الروحاني أن هذه الممارسات، رغم أعبائها، تُصبح جزءاً من تجربة الطقوس التي تُساعد على الدخول في مرحلة جديدة. إنها تُقدم للفئات الفقيرة والأقل حظاً شعوراً بالسعادة والارتباط بالآخرين، تُعيد لهم إحساسهم بالانتماء، وتُذكرهم بأنهم ليسوا وحدهم في معاناتهم.
إن الأعياد في اليمن تُصبح مناسبات مهمة لاستعادة دفء العلاقات الأسرية والاجتماعية التي خفت وهجها بسبب مشاغل الحياة وتعقيداتها. ففي ظل الحرب، يُصبح التواصل الإنساني أكثر قيمة، وتُصبح الأعياد فرصة لإعادة بناء الجسور، وتجديد الروابط، وتضميد الجراح.
يُؤكد عبدالكريم أن طقوس العيد هي شكل من أشكال العلاقة الاجتماعية التي تربط المجتمعات معاً. هذه العلاقة، في السياق اليمني، تُصبح أكثر أهمية، فالتجارب المشتركة في الاحتفالات الدينية تُساعد على خلق شعور وأحاسيس تُوحد جميع أفراد المجتمع في وجه التحديات.
من منظور علم الاجتماع، يُفسر أ. عبدالله الشميري “صلة الأرحام” وهدايا العيد بميل الناس خلال الأعياد إلى الاهتمام بالفئات الاجتماعية الأقل حظاً. هذا الاهتمام ليس مجرد عمل خيري، بل هو تعبير عن التضامن والتعاطف، يُسلط الضوء على إنسانية الجميع ويُؤكد على ما يجمعهم من روابط مشتركة. فالثقافة الاجتماعية والمقولات الدينية في اليمن تُشجع على التعاطف وأقل انتقاداً للفقراء، تُبرز إنسانيتهم وتُعزز الشعور بالانتماء المشترك.
شهادة على أن الحياة تنتصر
في نهاية المطاف، تُصبح العادات والتقاليد اليمنية في العيد شهادة حية على أن الحياة تنتصر دائماً. فصمود هذه العادات أمام التغيرات التي تجتاح البلدان، والتمسك بالملابس التقليدية والحلي، وعدم خلو أطباق العيد من الزبيب واللوز والكعك، رغم ازدحام الأسواق بالحلويات والشوكولاتة المصنعة خارجياً، كل هذا يُؤكد على أن الشعب اليمني لم يفقد بوصلته الثقافية.
العيد في اليمن ليس مجرد يوم للاحتفال، بل هو قصة تُروى، وتُخبر العالم عن شعب يُعاني ولكنه لا ينكسر، يُحاصر ولكنه يُقاوم، يُستهدف ولكنه يُصر على البقاء. إنه فصل جديد في كتاب الصمود اليمني، يُكتب بماء الفرح، ويُخط بمداد العزم، ويُسطر بأقلام الأمل، ليُعلن أن زخم الحياة في اليمن سيبقى مُستمراً، وأن روح المقاومة ستظل مُتقدة، مهما كانت الظروف قاسية، ومهما كانت التحديات عظيمة.

قد يعجبك ايضا