الضفة الغربية تواجه أكبر حملة تهجير منذ 1967

الثورة نت/

في أحد أحياء جنين شمال الضفة الغربية، حيث كانت الحياة تضجّ بالحركة قبل أشهر قليلة، بات المشهد اليوم يشي بالخراب الكامل: منازل مهدمة، طرقات مغلقة بأكوام الركام، وسكان نزحوا تحت ضغط لا هوادة فيه من جرافات الجيش الإسرائيلي.

لكن وسط هذا الانهيار، لا أثر لأي حضور فعّال للسلطة الفلسطينية، التي تبدو غائبة بالكامل عن المشهد، رغم استمرار تنسيقها الأمني مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، بحسب ما أبرزت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.

ونبهت الصحيفة إلى أنه منذ مطلع العام، تشهد الضفة الغربية المحتلة حملة عسكرية إسرائيلية غير مسبوقة من حيث الاتساع والمدة، تتركز في مدن مثل جنين وطولكرم.

وعلى الرغم من أن هذه المدن تقع ضمن المناطق التي يُفترض أن تُدار مدنيًا وأمنيًا من قبل السلطة الفلسطينية، إلا أن السيطرة الفعلية على الأرض انتقلت بشكل شبه كامل إلى الجيش الإسرائيلي.

النتيجة كانت تهجير نحو 40 ألف فلسطيني منذ يناير الماضي، وفق تقديرات الأمم المتحدة – وهو أعلى رقم تسجله الضفة الغربية منذ نكسة عام 1967.

وبينما تفرض دولة الاحتلال وقائع جديدة بقوة السلاح، لم يصدر عن القيادة الفلسطينية سوى بيانات باهتة، في حين تواصل الأجهزة الأمنية التابعة لها تنسيقها اليومي مع الجانب الإسرائيلي في مجالات متعددة.

في أحد أحياء جنين التي زارها صحفيو نيويورك تايمز، لم يبقَ من ملامح الحي إلا الركام.

الحي الذي كان يضم أكثر من عشرة آلاف ساكن، تحول إلى منطقة مهجورة، مغلقة بالسواتر الترابية، بعد أن دُمّرت معظم مبانيه خلال اقتحامات عسكرية متكررة منذ يناير.

ويقول محمد جرار، رئيس بلدية جنين، إن “إسرائيل تتصرف كما لو أن السلطة الفلسطينية غير موجودة”. وهو توصيف دقيق لحالة التفكك التي تشهدها السلطة في الضفة، والتي تفقد بشكل متسارع ما تبقى لها من شرعية أو قدرة على التأثير.

وفي مدينة طولكرم المجاورة، أعلن الجيش الإسرائيلي نيته هدم عدد من المنازل في أحيائها المكتظة لتسهيل تحركاته العسكرية. معاذ عمرنة، طالب جامعي في العشرينات من عمره، تلقى في مارس إخطارًا بهدم منزله. يقول: “إنهم لا يكتفون بتدمير حاضرنا، بل يأخذون منا مستقبلنا أيضًا”.

ما يثير القلق أكثر من حجم الدمار، هو الطابع المنهجي للعملية الجارية. فالجيش الصهيوني لا يكتفي بالاقتحامات، بل بدأ بتوسيع الطرق داخل المخيمات، وتفجير المباني وتفكيك البنى التحتية للمجتمع الفلسطيني هناك.

ووفق صور جوية ومصادر ميدانية، شملت العمليات إزالة مبانٍ بأكملها بدعوى احتوائها على “مخابئ أسلحة”، بالإضافة إلى تفجير طرقات ضيقة وزرع أجهزة مراقبة، ما يشير إلى نية إسرائيل ترسيخ وجود دائم في مناطق من المفترض أنها تخضع لإدارة فلسطينية.

ويعزز من هذه المخاوف ما كشفه مسؤولون محليون في جنين، مثل عمار أبو بكر، رئيس غرفة التجارة، ومحمد جرار، رئيس البلدية، من أن الجانب الإسرائيلي أبلغهم بخطط لتحويل مخيم جنين إلى “حي سكني عادي”، ما يعني فعليًا إنهاء صفته كمخيم لاجئين. كما أُبلغا بأن وكالة الأونروا، التي تدير الخدمات التعليمية والصحية في المخيم، سيتم استبعادها من العمل فيه.

هذه الخطط، التي تتزامن مع دعوات من وزراء في الحكومة الإسرائيلية لضم الضفة الغربية رسميًا، تثير شبح نكبة جديدة. سليمة السعدي، 83 عامًا، وهي من سكان مخيم جنين، تقول إنها هجّرت مرة واحدة في 1948، وتخشى أن تكون التجربة تتكرر الآن. “أخشى ألا أعود إلى بيتي كما حدث قبل ثمانية عقود”، تقول بحزن.

لكن في خضم هذا الواقع القاسي، يلاحظ الفلسطينيون غيابًا شبه كامل للقيادة الفلسطينية، التي لا تزال تحتفظ ببعض مظاهر الإدارة المدنية والشرطية، بينما تتقاعس عن حماية السكان أو حتى مجرد التواجد في المناطق المتضررة.

ورغم اتساع نطاق التهجير، لم تعلن السلطة الفلسطينية أي خطة طوارئ لدعم النازحين أو توثيق الانتهاكات، بل تستمر في علاقاتها الأمنية مع الجيش الإسرائيلي، بما في ذلك تبادل المعلومات والتنسيق الميداني.

يقول أحد سكان جنين، محمد أبو وصفة (45 عامًا)، إنه ساعد مؤخرًا نازحين من المخيم للاستقرار في شقق مؤقتة داخل مجمع طلابي. “لم نعد نعلم شيئًا عن منازلنا، أو إذا ما كانت لا تزال قائمة. نحن نعيش في حالة من الضياع”.

وفي حادثة أخرى، روت كفاح سهيل، 52 عامًا، أنها أُجبرت على مغادرة منزلها تحت تهديد طائرة مسيّرة إسرائيلية، استخدمت مكبّر صوت لتحذيرها من استهداف منزلها إن لم تمتثل. “أرشدتنا الطائرة نحو المخرج كما لو كنا أهدافًا عسكرية، وليس عائلة”.

وتشير مصادر إسرائيلية إلى أن العملية الجارية تهدف إلى تفكيك بنية “التهديدات المسلحة”، لكن حجم التدمير، ووتيرة التهجير، وطبيعة التحركات على الأرض، تشير إلى أهداف أوسع، تتعلق بتغيير الوضع القائم في الضفة الغربية بشكل جذري.

وبينما يصرّ الجيش الإسرائيلي على أن العملية مؤقتة، أصدر وزير الجيش الإسرائيلي في فبراير تعليمات لقواته بالاستعداد للبقاء في جنين وطولكرم على مدار العام. وهو ما يُعد عمليًا إلغاءً لاتفاقيات أوسلو، التي منحت السلطة الفلسطينية إدارة جزئية على هذه المدن.

في ظل هذه التطورات، يزداد الإحساس بين الفلسطينيين بأن لا سلطة تحميهم، ولا مؤسسات تمثلهم، بينما يواصل الاحتلال فرض وقائع جديدة على الأرض.

ويبدو أن ما بدأ باعتباره عملية “أمنية” قد يتحول إلى تغيير ديمغرافي طويل الأمد، يُنفذ بصمت وبتواطؤ من سلطة تغيب عن الميدان لكنها لا تزال تنسّق على الورق.

قد يعجبك ايضا